دمشق / مرجانة إسماعيل
من أول عرض سينمائي في مقاهي حلب في بدايات القرن العشرين، إلى أفلام توثّق الحرب وتُعرض في مهرجانات دولية، عاشت السينما السورية قرنًا حافلًا بالتقلّبات. فمن عصر الرومانسية والتجريب الفني، إلى التسييس والرقابة، ثم إلى تحديات ما بعد الحرب، تبقى السينما السورية مرآة للمجتمع، تعكس آماله ووجعه وهويته المتجذرة في التاريخ.
البدايات: أول شرارة سينمائية في سوريا
دخلت السينما سوريا في وقت مبكر، تحديدًا عام 1908، حين عُرض أول فيلم في حلب، المدينة التي احتضنت أولى صالات العرض السينمائي في البلاد. وفي دمشق، بدأ عرض الأفلام في المقاهي والمسرحيات باستخدام آلة عرض يدوية في ساحة المرجة.
وفي عام 1928، شهدت البلاد أول إنتاج سينمائي محلي بفيلم “المتهم البريء” للمخرج أيوب بدري، وهو فيلم صامت جرى تصويره في دمشق بإمكانات بدائية. تلاه فيلم “تحت سماء دمشق” عام 1934، لكنه لم يُحدث أثرًا كبيرًا لافتقاره إلى الإمكانيات التقنية والفنية مقارنة بما كانت تقدمه السينما المصرية آنذاك.
الستينيات: عصر الدولة والسينما المؤممة
في عام 1963، أُسست المؤسسة العامة للسينما، بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، لتكون الذراع الرسمية للسياسة الثقافية. أتاح ذلك دعمًا ماليًا وإنتاجيًا للأفلام، لكنه فرض في المقابل رقابة صارمة، وجعل السينما أداة للترويج السياسي في بعض الأحيان.
رغم ذلك، أنتجت المؤسسة عددًا من أهم الأفلام العربية، التي عالجت قضايا اجتماعية وسياسية وفلسفية، منها:
“الفهد” (1972) – إخراج نبيل المالح
“المخدوعون” (1973) – إخراج توفيق صالح، عن رواية لغسان كنفاني
“اليازرلي” (1974) – للمخرج قيس الزبيدي
“كومبارس” (1993) – إخراج نبيل المالح
تميّزت هذه الأفلام باللغة البصرية العميقة، والجرأة الفكرية، وأسلوب السرد غير التقليدي، ما جعلها تحجز مكانًا في أهم المهرجانات الدولية والعربية.
الثمانينيات والتسعينيات: نضوج فني تحت سقف الدولة
استمر إنتاج الأفلام بإشراف المؤسسة العامة، لكن وتيرة الإنتاج بدأت تتباطأ، واقتصرت على 2–3 أفلام سنويًا. برز في هذه المرحلة مخرجون مثل عبد اللطيف عبد الحميد وسمير ذكرى، الذين قدّموا أفلامًا تستلهم التراث السوري، وتعالج قضايا الطبقة الوسطى والفقر والهجرة والهوية.
كما لعب التلفزيون دورًا في ترسيخ الوجوه السينمائية، عبر التعاون مع مؤسسة الإنتاج التلفزيوني.
أزمة سينما عامودا: جرح لا يُنسى
في نوفمبر 1960، احترقت سينما “عامودا” في محافظة الحسكة أثناء عرض فيلم عن الثورة الجزائرية، ما أسفر عن وفاة أكثر من 200 طفل كردي. الحادثة تركت أثرًا عميقًا في الذاكرة الجمعية، واعتُبرت من أبشع الكوارث التي شهدتها صالات السينما في العالم العربي، خاصة أن السلطات وقتها منعت التحقيقات.
السينما السورية والمرأة: حضور يتصاعد ببطء
رغم التحديات، برزت أسماء نسائية في السينما السورية، مثل:
هالة العبد الله – صاحبة أفلام وثائقية مهمة مثل “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها”
وعد الخطيب – مخرجة فيلم “إلى سما”، الذي حصد جوائز عالمية وعُرض في مهرجان كان
رشا شربتجي – رغم شهرتها في الدراما، لكنها أثرت بصريًا في أسلوب الحكاية السوري
ما بعد 2011: سينما توثق الدم
مع اندلاع الثورة السورية، انقسمت السينما السورية إلى ثلاث مسارات:
سينما رسمية: حافظت المؤسسة العامة على إنتاجها، لكنها عكست وجهة نظر الدولة السياسية.
سينما مستقلة: بدأ عدد من الشباب والمخرجين المستقلين بإنتاج أفلام وثائقية أو روائية قصيرة، بتمويل أوروبي أو عربي، ناقشت الثورة والنزوح والاعتقال.
السينما في الشتات: أخرج مخرجون سوريون في المنافي أفلامًا عن تجربة اللجوء، مثل فيلم “عن الآباء والأبناء” لطلال ديركي، والذي ترشح للأوسكار عام 2019.
السينما السورية اليوم: بين الأطلال والهواتف الذكية
تم تدمير عدد كبير من دور السينما، مثل سينما السفراء، الأمير، أوغاريت، الفرات.
الإنتاج لا يزال محدودًا، وغالبًا ما يتم خارج سوريا.
الشباب السوري بدأ بصناعة أفلام بالهواتف الذكية، تُعرض في مهرجانات عالمية مثل: إدفا، برلين، فينيسيا.
رغم قلة الموارد، إلا أن الإبداع السوري لم ينطفئ. السينما السورية اليوم تصرخ من تحت الركام، عبر فيلم قصير، أو لقطة توثق لحظة مصيرية، أو مهرجان يحضن موهبة منسية.
خاتمة: هل من مستقبل للسينما السورية؟
رغم الدمار، لا تزال السينما السورية تتنفس بأدوات بسيطة وشغف كبير. تحتاج هذه السينما إلى:
رفع الرقابة
دعم الشباب
فتح الباب أمام التمويل المشترك
ترميم صالات العرض
تحويل السينما إلى قوة ناعمة للهوية السورية
فالفن لا يموت، والعدسة لن تُكسر طالما أن هناك حكاية تُروى.