لكل السوريين

جيل المطرقة بدل القلم: أطفال حلب يعملون بدل أن يحلموا

حلب/ خالد الحسين

في أحد أحياء حلب الشرقية، وتحديدًا في سوق الورش الصناعية قرب حي الشعار، يقف الطفل “محمود” ذو الأحد عشر عامًا وهو يحمل قطعة حديدية ثقيلة بين يديه الصغيرتين. يعلو وجهه غبار أسود ورائحة زيت المحركات تفوح من ثيابه. لا يعرف محمود متى كانت آخر مرة دخل فيها مدرسة. “تركت المدرسة من الصف الثالث. أبي مريض وما في حدا يصرف علينا”، يقول دون أن يرفع عينيه.

محمود ليس حالة فردية، بل هو مثال حي لواقع يعيشه آلاف الأطفال في حلب، الذين اضطروا لترك مقاعد الدراسة والانخراط في سوق العمل مبكرًا بسبب الظروف الاقتصادية المتردية، وغياب نظام تعليمي فعّال في المدينة المنكوبة بالحرب والنقص الحاد في الخدمات.

في ورشة تصليح السيارات المجاورة، التقى (السوري)بـ”مالك”، طفل آخر يبلغ من العمر 13 عامًا، يبدل الإطارات ويلتحم تحت السيارات بخبرة لا تليق بعمره. “أشتغل من الساعة 8 الصبح للمسا، بـ 100 ألف ليرة بالأسبوع”، يقول وهو يمسح العرق من جبينه. حلمه البسيط بأن يصبح مهندساً تبخر في مهب أزمات الحياة اليومية.

توجه السوري بعدها إلى والد مالك، “أبو مالك”، الذي يعمل بائعًا متجولًا. جلسنا في زقاق ضيق قرب منزله المهدم جزئيًا. تحدث بمرارة قائلاً: “ما حدا بيرضى يشغل طفل لو ما الظروف خانقة. شو أعمل؟ دخلي ما بكفي خبز. المدارس بعيدة وما في مواصلات، والمعلمين أصلاً ما بيجو دايمًا”. يعترف أبو مالك أن ضميره يؤنبه، لكنه يبرر الأمر بأنه “أهون الشرّين”.

وفي محاولة لفهم الصورة من جهة أصحاب الورش، التقينا بـ”أبو أحمد”، صاحب محل تصليح سيارات في منطقة الجزماتي، الذي يشغّل عدة أطفال. يقول بلا تردد: “أنا مو فرحان أشغل أطفال، بس أولاد الحارة بيجوا يطلبوا شغل. إذا ما شغلتهم هون، بيروحوا يشتغلوا بشي أسوأ أو يسرقوا على الأقل بيتعلموا صنعة”.

وتشير تقارير محلية إلى أن نسبة تسرب الأطفال من المدارس في حلب تجاوزت 30% في بعض المناطق، خاصة في الأحياء التي شهدت دمارًا كبيرًا. ومع غياب المنظمات الإنسانية الفاعلة بشكل كافٍ، تبقى برامج حماية الطفل محدودة التأثير، لا تصل إلى معظم هؤلاء الأطفال.

المؤلم أن هؤلاء الصغار، الذين كان من المفترض أن يحملوا كتبهم ويكتبوا أحلامهم، باتوا يحملون أدوات العمل الشاق ويعيشون حياة لا تليق ببراءتهم. حلب التي خرجت من حرب مدمرة، ما زالت تنزف جيلًا بعد جيل، والطفولة أول الضحايا.

حيث وجدنا وسط الركام، تذبل أحلام الطفولة في ورش تصليح وبسطات السوق. وبين غياب الدولة وصمت المجتمع، يضيع جيل جديد من أبناء حلب، محرومين من أبسط حقوقهم: التعليم، والأمان، واللعب.