لكل السوريين

السيناريو القوقازي إلى إدلب.. دعم تركيا لأذربيجان بالمرتزقة حسم الأمر، ونفاق روسيا وإيران كسر أرمينيا

تشير النظرة السريعة لمجريات الأمور في القوقاز، إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار، وضع نهاية للحرب بين أرمينيا وأذربيجان، وأنهى مواجهة دموية غير مسبوقة في المنطقة منذ عقود.

لكن النظرة المعمّقة، تؤكد أن هذا الاتفاق أقرب ما يكون إلى وثيقة استسلام وقعتها أرمينيا. فالواقع العسكري في الميدان، وخذلان أصدقائها لها، لم يترك لها خيارات أخرى، وفرض على رئيس الوزراء الأرميني أن يوقع الاتفاق، وقد فعل.

لكنه رفض أن يوقع أمام الكاميرات، لشعوره بأنه يشكل صفحة سوداء في تاريخ أرمينيا. في حين أظهر خصمه الرئيس الأذري إلهام علييف حالة ممجوجة من التنمر، وصب الملح على جراح أرمينيا، بحديثه عن استسلامها، وطرد “الكلاب” من الأراضي الأذرية.

اتفاق مؤلم

أعلن رئيس الوزراء الأرميني أنه وقع اتفاقا مؤلما لإنهاء الحرب في الإقليم المتنازع عليه. وقال نيكول باشينيان في بيان له على صفحته في موقع فيس بوك: “لقد وقعت إعلانا مع الرئيسين الروسي والأذربيجاني لإنهاء الحرب في قره باغ”، ووصف هذه الخطوة بأنها “مؤلمة بشكل لا يوصف، لي شخصيا كما لشعبنا”.

وقال في بيانه إنه اتخذ قرار التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار “بعد تحليل معمق للوضع العسكري”، في إشارة إلى التقدم الذي حققته القوات الأذربيجانية خلال المعارك، وشدد على أن الاتفاق هو “أفضل الحلول المتاحة في الوضع الراهن”.

وأكد على أن وقف المعارك كان الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الجمهورية المعلنة في ناغورني قره باغ، رغم أنها “أصبحت ضعيفة وتقلصت مساحتها”. واعترف باشينيان في فيديو نشره على موقع فيس بوك “احتفظنا بما لم نكن سنتمكن من الحفاظ عليه لو تواصلت المعارك”.

والمعارضة ترفض

فور شيوع خبر الاتفاق رفضته المعارضة الأرمينية رفضاً قاطعاً، وتوافد آلاف من الرافضين للاتفاق إلى المقر الحكومي في يريفان، وتظاهر القسم الأكبر منهم خارج المقر، في حين اقتحمه آخرون، وعاثوا خرابا في مكاتبه، ولا سيما في إحدى قاعات مجلس الوزراء، وحطموا زجاج عدد من نوافذه، وأطلقوا هتافات منددة برئيس الوزراء من بينها “نيكول خائن”.

وأفاد مراسل لوكالة الأنباء الفرنسية أن بين ألفين وثلاثة آلاف من المحتجين المناصرين للمعارضة، تجمعوا في يريفان. وتم توقيف عدد منهم، بينهم شخصيات سياسية مثل رئيس حزب “أرمينيا المزدهرة”، في بداية المظاهرة، قبل أن تترك الشرطة التجمع يتواصل رغم أنه محظور بموجب قانون عسكري.

ضغط المعارك ونفاق الأصدقاء

ورغم مرارة هذا الاتفاق بالنسبة لأرمينيا، فلم يكن أمامها من خيار آخر بسبب الضغط العسكري الذي تعرضت له في ميادين القتال، وضغط “الأصدقاء” الذين باعوها الوهم، عندما وعدوها بدعم بقي رهين وسائل الإعلام، والخطب السياسية.

وقبيل الاتفاق، وصلت القوات الأذرية إلى “شوشه” الاستراتيجية، وهو ما يمكنها من حسم المعركة خلال وقت قصير، فوجهت أرمينيا نداء استغاثة لروسيا تطالب فيه بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك واتفاقية الصداقة، وجاء الرد الروسي مخيباً لآمالها، حيث اعتبرت موسكو أنها معنية بالتدخل وفق اتفاقية الدفاع المشترك بينهما، إذا تعرضت أرمينيا لهجوم، وليس إقليم قره باغ. واعتبر هذا الرد رسالة روسية لأذربيجان وتركيا، بأن روسيا لن تتدخل عسكرياً لصالح أرمينيا.

كما وجهت أرمينيا نداءات غير مباشرة لدول صديقة أخرى، لكنها قوبلت بصمت هذه الدول. وتحول تعاطف بعضها إلى الجانب الأخر، كما فعلت إيران.

وفرنسا التي ترتبط بعلاقات تاريخية مع أرمينيا، وتعيش فيها جالية أرمينية كبيرة، قد فضلت أن تبقى وسيطا “نزيها”، كما قال وزير خارجيتها. هكذا وجدت أرمينيا نفسها مجبرة بحسابات المعركة والسياسة على توقيع الاتفاق، لأنها خيرت

بين اتفاق فوري تتوقف بعده المعارك، ويتوقف الجيش الأذري عند حدود شوشه، أو استمرار المعارك مما يعني سقوط بقية الإقليم.

حسابات طهران

في البداية كانت إيران تدعو لإنهاء الصراع عن طريق التفاوض، وتحاول القيام بدور الوسيط، رغم تعاطفها المعلن مع أرمينيا، ودعمها غير المعلن لها.

ثم غيرت خطابها وبدأت بالحديث عن حق أذربيجان في استعادة كامل أراضيها المحتلة منذ عام 1994م، بعد تحرك الأقلية الأذرية في إيران لدعم أذربيجان، حيث تظاهر الأذريون الإيرانيون في المدن ذات الأغلبية الأذرية، ونددوا بدعم إيران لأرمينيا.

وفي محاولة لاحتواء الموقف أعلن نواب المرشد في زنجان وأردبيل وغيرها من المناطق، عن مساندة إيران لأذربيجان، وصرحوا بأن الأراضي الإيرانية لن تستخدم في تمرير السلاح الروسي لأرمينيا.

إضافة إلى أن طهران تتخوف من تواجد المرتزقة الذين نقلتهم تركيا إلى أذربيجان من سوريا وليبيا قرب حدودها، ومن الخطر سيشكلونه عليها بعد توقف القتال، إذا لم تعيدهم تركيا إلى الأراضي التي جاؤوا منها.

فوجدت أن إظهار التعاطف مع أذربيجان وحليفتها تركيا، قد يجنبها خطر تسرب هؤلاء المرتزقة إليها، ومواجهتهم فوق أراضيها.

حسابات أنقرة

منذ البداية وضعت تركيا ثقلها العسكري إلى جانب أذربيجان بهدف إيجاد موطئ قدم لها في منطقة استراتيجية في منطقة جنوب القوقاز، وتحقيق مكاسب اقتصادية كثيرة، والارتباط بشكل مباشر بحدود أذربيجان وهو الأمر الذي سيتم تحويله إلى بنيات أساسية تخدم الارتباط بمصادر الطاقة.

وكان واضحاً أن الانتصار الأذري في هذه المعركة ما كان ليتحقق دون مشاركته تركيا الفعلية فيها، وهو ما مكّنها من أن تتحول إلى فاعل جديد في المنطقة بتوافق مع روسيا، على أن تقدم لها تنازلات ما في منطقة ما.

وتبدو أنقرة قد حققت معظم ما خططت منذ البداية لها، فقد حققت إنجازاُ على صعيد رصيدها الدولي، وعززت وجودها في أذربيجان.

ومع أن الاتفاق لا ينص على مشاركتها في نشر دوريات إلى جانب الجيش الروسي، لكن الرئيس الأذري تحدث صراحة عن هذا الوجود، ولا يستبعد أن تفرض تركيا وجودها بحكم الأمر الواقع، في ظل ضعف أرمينيا المهزومة في المعركة، وفقدانها لأي قوة تفاوضية تمكّنها من الوقوف بوجهها.

حسابات موسكو

منذ البداية كانت تدرك روسيا أن أذربيجان المدعومة من تركيا تتفوق على أرمينيا، وتعلم أن تركيا قد دخلت بكل ثقلها في المعركة، لكنها أرادت أن يصل الوضع إلى ما وصل إليه لكي تعاقب أرمينيا على تقربها من الغرب والولايات المتحدة، منذ “الثورة المخملية” التي حملت رئيس الوزراء الحالي من السجن إلى السلطة، دون أن يخفي رغبته في انتماء أرمينيا إلى الغرب، بعد قرن من تبعيتها لموسكو.

وقد تتصاعد العقوبة الروسية على رئيس الوزراء إلى محاولة إسقاطه، وقد بدأت بواكير هذه المحاولة بأسرع من المتوقع، حيث أعلن جهاز أمن الدولة الأرميني منذ ثلاثة أيام أنه أفشل محاولة انقلاب على السلطة واغتيال رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان.

ومن من جهة أخرى ضمنت روسيا مصالحها في أذربيجان، وقدمت هدية لتركيا لتأخذ مقابلها في مناطق ممتدة من سوريا إلى ليبيا إلى شرق المتوسط.

انتهت المعارك.. وقواعد اللعبة مستمرة

انتهت هذه المعركة بهزيمة مذلة لأرمينيا، وخرجت من هذا الاتفاق بخسارة ما احتلته من الأراضي الأذرية عام 1994، وأكثر من نصف إقليم قره باغ، والجزء المتبقي منه لن يعود، في الغالب، إلى ما كان عليه.

كما أن الثمن الذي دفعته حكومة أرمينيا لن يقتصر على الصعيد العسكري فقط، فعلى الصعيد السياسي تعمق إحساس لدى شعبها بأن حكومته دفعت بالجيش إلى معركة لم يستعد لها، وعرّضت البلاد للإذلال، ومن المتوقع أن يتم سقوط الحكومة للتخفيف من الغضب الشعبي.

وهذا ما بدأت ملامحه بالظهور من خلال محاولة الانقلاب التي تمّ إحباطها منذ أيام.

بينما ثأرت أذربيجان لهزيمتها عام 1994، واستعادت ما يعادل معظم أراضيها التي احتلت في هذه الحرب، وتمكنت من السيطرة على أكثر من نصف إقليم قره باغ، وضمنت ربط أراضيها بإقليم ناخيتشيفان الذي كان معزولا عنها بشكل كامل رغم أنه يتبع لها، وكان الوصول إليه يتطلب المرور عبر إيران أو أرمينيا، وضمنت عن طريقه الاتصال المباشر مع تركيا.

وكانت أذربيجان قد قبلت صاغرة بوقف إطلاق النار، بعد هزيمتها في هذه الحرب.

ثم تغيرت موازين لعبة الكبار، فروسيا اللاعب التقليدي في القوقاز، وتركيا الوافد الجديد على المنطقة، تتصدران المشهد الآن، بينما تكتفي فرنسا والولايات المتحدة إيران بالمقعد الخلفي.

ولكن قواعد اللعبة وموازينها قد تتغير على المدى المتوسط أو الطويل، وقد تتبدل خريطة التحالفات في المنطقة، ما يشير إلى أن المعارك بين أذربيجان أرمينيا لن تنتهي عند هذا الحد، بل قد تتجدد عندما تتغير قواعد اللعبة وموازينها.

سيناريو قره باغ إلى إدلب

ظهرت مؤشرات عديدة على احتمال قيام موسكو وأنقرة بنقل سيناريو اتفاق وقف الحرب في قره باغ إلى محافظة إدلب. فبعد يوم واحد من توقيع هذا الاتفاق، بحث وزير الدفاع الروسي في اتصال هاتفي مع نظيره التركي، تسوية النزاع في قره باغ، والوضع في سوريا.

وجاء في بيان صدر عن وزارة الدفاع الروسية أن الوزيرين تبادلا الآراء حول سبل إرساء الاستقرار في سوريا. وكان المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا قد أكد أن انسحاب القوات التركية من عدد من نقاطها في شمال غرب سوريا، تجري وفق اتفاقات روسيا وتركيا بالرغم من أنها تتم بشكل بطيء، إلا أنهم عازمون على تطبيقها بشكل كامل

كما أكد رئيس النظام التركي أنه بإمكان روسيا وتركيا استخدام آلية التسوية المتفق عليها في قره باغ، لتطبيقها في سوريا. وجاء ذلك خلال اتصال هاتفي أجراه مع نظيره الروسي، ونقلت مخرجاته الرئاسة التركية، مشيرةً إلى أن أردوغان وبوتين بحثا الاتفاق الأخير حول وقف إطلاق النار في قره باغ، وأن أردوغان أكد على ضرورة “عدم تضييع الفرصة” بعد التوصل إلى الاتفاق، بما يشير إلى إصراره على اعتماد السيناريو القوقازي في سوريا.

وهذا ما ذهبت إليه أوساط الرئاسة التركية التي أكدت أن أردوغان أعرب عن أمله في استمرار روح التعاون بين بلاده وبين روسيا “في سبيل حل الأزمة السورية، والتوصل إلى آلية حل شبيهة باتفاق قره باغ”.

ومعروف أن اتفاق قره باغ، ينص على نشر قوات حفظ سلام روسية على امتداد خط التماس في قره باغ، على أن يكون لتركيا دور في المراقبة على وقف إطلاق النار عبر مركز روسي تركي مشترك سيفتتح في أذربيجان لهذا الغرض.

تقرير/ لطفي توفيق