لكل السوريين

الصراع بين موسكو وأنقرة يتصاعد على الساحة السورية.. والمواطن السوري ضحيته الأولى

شكلت الضربة الروسية الأخيرة لـ “فيلق الشام”، انعطافة واضحة في مسار التفاهمات بين روسيا والنظام التركي في الشمال السوري، فقد استهدفت هذه الضربة أهم وكلائه في شمال غرب البلاد، وجاءت في ظل حالة الهدوء التي عمل الطرفان على تثبيتها في المنطقة.

وقد تساهم هذه الضربة، والرد العنيف من قبل الفصائل المسلحة التابعة لتركيا، في تصاعد الصراع بين البلدين ليصل إلى حالة غير مسبوقة في علاقات موسكو وأنقرة التي تتراوح بين التنسيق غالباً، والتنافس أحياناً، وهو ما ينذر بوصول الصراع إلى حدود المواجهة بينهما على الساحة السورية، أو إعادة النظر في قواعد اللعبة بين الطرفين، وهو ما تسعى كل من روسيا وتركيا إلى تحقيقه، في ظل مناخ حافل بالتوتر وتسارع الأحداث.

وفي حال نجاح هذه المساعي ربما يعيد الطرفان صياغة قواعد الاشتباك بينهما، وفي حال فشلها ستبقى الأمور مرشحة لكل أنواع التصعيد، ويبقى الباب مفتوحاً على كافة الاحتمالات، وتبقى الأرض السورية مسرحاً لهذا التصعيد، وتلك الاحتمالات، ويبقى السوريون ضحيتها الأولى.

محاولات للتهدئة

تؤكد مختلف المصادر على أن الاتصالات بين الجانبين حول التطورات الأخيرة في إدلب مستمرة على الصعيد السياسي والعسكري، بهدف تثبيت وقف إطلاق النار، والتهدئة في مناطق خفض التصعيد، والعمل على تضييق الخناق على المجموعات المتشددة.

ويتماشى هذا التوجه مع رغبة الجانبين بالحفاظ على علاقاتهما، فما زالت حاجة كل منهما للأخر كبيرة، حيث يحتاج النظام التركي لروسيا من أجل تحقيق أطماعه في الشمال السوري، تحت شعار ما يسميه بالمنطقة الآمنة. في حين تحتاج روسيا لبقاء تركيا طرفاً في أستانة حتى لا تتحول إلى منبر روسي إيراني فقط.

ولكن حرب القوقاز التي حقق فيها النظام التركي بعض المكاسب على حساب الجانب الروسي، والدور التركي الذي أربك مساعي موسكو في الملف الليبي، وإصرار أنقرة على إبقاء نقاط مراقبتها المحاصرة في الشمال السوري لاستخدامها كورقة تفاوض في وجه روسيا. قد تذهب بالأمور في اتجاه مغاير لهذا التوجه.

تصعيد أم تنسيق

يرجع بعض المراقبين سبب التصعيد الروسي، من خلال قصف فصيل مدعوم من تركيا، ومهم بالنسبة لها، إلى انزعاج روسيا من دعم تركيا لأذربيجان وإرسالها لمرتزقة سوريين إلى هناك، بحيث بات هؤلاء المقاتلين على مقربة من الحدود الروسية.

بينما يعتبر آخرون أن الانسحاب التركي من نقطة المراقبة في بلدة مورك، والقصف الروسي الأخير لفيلق الشام، أحد عوامل التسخين في الشمال الغربي من سوريا، تمهيداً لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه خلال اجتماعات الوفود التقنية بين الروس والأتراك في أنقرة شهر أيلول الماضي، حيث رشحت عنها تسريبات تفيد بوجود اتفاق حول تخفيض عدد نقاط المراقبة التركية، مقابل وضع مدينتي تل رفعت ومنبج تحت النفوذ التركي، بما يمكّن النظام التركي من التمدد نحو منطقة عين عيسى، تحت نفس الذريعة التي تسوّقها أنقرة دائماً، وهي وجود “قوات سوريا الديمقراطية” هناك.

وقد كشفت تصريحات رئيس النظام التركي عن نواياه في هذا الاتجاه، حينما قال الشهر الماضي، إن بلاده تحتفظ بحق اتخاذ إجراءات عسكرية جديدة في سوريا، إذا لم تطبق الاتفاقات الخاصة بانسحاب القوات التي حررت المنطقة من تنظيم داعش، الولد المدلل له.

ومن المعروف أن لعبة التوازنات بين روسيا وتركيا تخضع لمتغيرات كثيرة، حسب مصالح كل منهما، وتوازنات القوى على الأرض، وقد قام اللاعب الروسي أكثر من مرة، بتغيير قواعد اللعبة لاعتقاده بأن هذا المسار لا يخدم مصالحه كما يريد.

وعلى هذا الصعيد، توجد عوامل كثيرة قد تساهم في تحول لعبة التنسيق إلى صراع متصاعد بين النظامين:

في الملف السوري

تعتبر روسيا أن تركيا تماطل بتنفيذ التزاماتها التي تم إقرارها في اتفاق سوتشي شهر آذار الماضي، ومنها تعهد النظام التركي بإبعاد الفصائل المسلحة التابعة له، عن المناطق القريبة من الطريق M4 لإعادة تشغيله أمام الحركة التجارية والمدنية.

حيث تراهن روسيا على أن تشغيل هذا الطريق يمكّنها من تنفيذ مخططها الاستثماري في سوريا، فهو يربط مناطق إنتاج المحاصيل الزراعية بالساحل والداخل السوريين.

وبسبب هذه المماطلة التركية أوقفت روسيا الدوريات المشتركة مع الأتراك، وصعّدت من وتيرة تصريحاتها حول ضرورة الإسراع بإبعاد الفصائل وتفكيك التنظيمات المتطرفة التي توجد على جانبي الطريق.

كما تخشى روسيا من استمرار تركيا بحشد قواتها في شمال سوريا، في محاولة منها لفرض أمر واقع لا تقبل به موسكو، وتعتبره من أحد سلبيات اتفاق سوتشي الأخير الذي ثبت حالة وضع ميداني لم تعد ترغب بها روسيا، وهذا ما سيدفعها إلى التفكير في تغيير قواعد الاشتباك وصياغة أخرى جديدة تخدم مصالحها.

وفي ملف القوقاز

يشكل الصراع في القوقاز أحد أسباب التحرك الروسي ضد تركيا في سوريا، ويثير إرسال تركيا للمقاتلين إلى إقليم ناقورني قره باغ، قلق موسكو التي تتخوف من احتمال تسرب بعض هؤلاء المقاتلين إلى الأراضي الروسية.

وتعتبر روسيا أن تدخل النظام التركي في هذا الصراع، وتشجيعه للرئيس الأذري على مواصلة القتال، في الوقت الذي تحاول فيه روسيا تهدئة الصراع، قد يجبرها على التدخل المعلن إلى جانب أرمينيا، ما يجعلها تخسر مصالحها في أذربيجان.

وتسعى إلى انتزاع أوراق القوة من يد تركيا التي تفرض نفسها شريكاً أساسياً في حل أزمات القوقاز، بصفتها ضامنة لأذربيجان، مقابل روسيا التي ستضمن أرمينيا، وهو ما تعتبره موسكو إعادة للسيناريو السوري الذي لا تريد تكراره.

وتشعر روسيا بأن الحرب في القوقاز تسير لصالح تركيا وحليفتها أذربيجان، ومن المستبعد أن تقبل بخسارتها في هذا الملف، ومن المرجح أن تحاول تعويضها في سوريا، عبر سيطرتها على مناطق في شمال البلاد.

وفي الملف الليبي

أثارت التطورات الأخيرة في ليبيا، ومحاولات التسوية وتهدئة الصراع فيها، غضب موسكو وأنقرة، وخاصة بعد الدخول الأمريكي على خط التسوية.

فمنذ البداية فرض الصراع في ليبيا على الطرفين إجراء ترتيبات تهدئة في سوريا، نظراً للتطورات المتسارعة في الجبهة الليبية، وأهمية الملف الليبي في مشاريعهما الجيوسياسية في المنطقة.

ومن المستبعد أن تنسى روسيا العقبات التي شكلها النظام التركي في مواجهتها وساهم بخسارتها في التأثير على الملف الليبي، وهو ما دفعها إلى التحرر من التزاماتها تجاه تركيا في سوريا.

سياسة روسيا في مواجهة تركيا

لتحقيق أهدافها في سوريا، عملت روسيا بسياسة الضغط الميداني المتصاعد على تركيا، مع إبقاء باب الحوار معها مفتوحاً، وراهنت على عدم حماس شركائها في حلف الناتو لمساعدتها في هذه الحرب.

وزجت بإمكانات هائلة في معركة إدلب، من خلال إشراكها لقوى النخبة في القوات السورية والميليشيات الإيرانية، وإدارة ضباطها لمسرح العمليات، بالإضافة إلى تزويد القوات المقاتلة بأحدث الذخائر الروسية، حيث زودت القوات السورية بصواريخ كاليبر المجنحة، ودفعت النظام السوري إلى إعلان إغلاق الأجواء السورية، وهو ما حرم تركيا من استخدام طائراتها المقاتلة في المعارك.

ونفذت سياسة القضم السريع لمناطق الفصائل المسلحة المرتزقة التابعة لتركيا، بما يحقق لها هامش مناورة أوسع في أي مفاوضات معها، ويوقف محاولاتها لإعادة المعادلة الميدانية السابقة.

سياسة تركيا في مواجهة روسيا

بدورها ركزت تركيا على تكثيف حشودها العسكرية في إدلب، واستخدمت أحدث أسلحتها، من الطائرات المسيّرة، والمدرعات والصواريخ خلال احتلالها لجزء من أراضي الشمال السوري، وتثبيت أقدامها بهذه المواقع بأسرع وقت ممكن.

وعلى الصعيد الدبلوماسي قامت بحملة واسعة في أوروبا والولايات المتحدة ضد روسيا، وحاولت استخدام ورقة اللاجئين للضغط على أوروبا، من أجل تزويدها بالأسلحة المتطورة، أو مساعدتها في الضغط على روسيا لوقف الحرب في إدلب.

وحققت السياسة الروسية إنجازات مهمة في مواجهة تركيا، من خلال السيطرة على الطريق M 5، وإبعاد الفصائل المسلحة التابعة لتركيا من مساحات واسعة كانت تحت سيطرة تركيا التي عجزت عن استردادها، رغم الهجمة المعاكسة التي قامت بها واستعادت من خلالها السيطرة على مواقع محدودة.

الموقف الغربي

كشفت جولة الصراع الأخيرة في إدلب ضعف الدور الأوروبي في الضغط على روسيا، وعدم جدوى العقوبات الاقتصادية التي لم تؤثر بشكل حقيقي على الموقف الروسي. واكتفت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بالتعاطف اللفظي مع تركيا. ولكن أوروبا رفضت تحميلها مسؤولية الحرب، من خلال رفضها للضغوط التركية عليها بقضية اللاجئين.

كما كشفت ارتباك الموقف الأمريكي الذي بدأ بتعاطف لفظي مع تركيا، وانتهى بتصريحات المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري، بأن بلاده على استعداد لتزويد تركيا بالذخيرة اللازمة لدعم موقفها العسكري في إدلب، مشيراً إلى أن تركيا حليف للناتو، رغم من تصريح سابق لوزير الدفاع الأمريكي أن بلاده لن تقدم دعماً جوياً لتركيا في إدلب.

وأشارت التصريحات الأمريكية إلى وجود خلاف برؤية البنتاغون والخارجية لمعارك إدلب، حيث رفض المسؤولون العسكريون الأمريكيون التهور في مغامرة قد تكون لها تداعيات عالمية.

في حين تنظر وزارة الخارجية للصراع في إدلب على أنه يمثل أهدافها في إضعاف الموقف الروسي ويدفع تركيا إلى الابتعاد عن روسيا.

صندوق بريد

تستخدم روسيا الساحة السورية لتمرير رسائلها إلى تركيا، من خلال قدرتها على ضرب أهداف حيوية لها، وخاصة وكلاء تركيا في شمال سوريا، وامتلاكها ذرائع قانونية تمكّنها من فعل ذلك متى شاءت.

وقد عبّر رئيس النظام التركي عن استيائه من هذا السلوك، واتهم روسيا بعدم الرغبة في إحلال السلام في سوريا.

وبدورها تستخدم تركيا الساحة السورية للرد على الرسائل الروسية، من خلال رد الفصائل المسلحة التابعة لها على الضربات الروسية باستهداف مواقع في أرياف إدلب وحلب وحماة واللاذقية، وتعزيز قواتها ومواقعها في جبل الزاوية، وهو ما اعتبره المراقبون رسالة لروسيا بضرورة تهدئة اندفاعها في إدلب.

وبالمحصلة، تسعي روسيا إلى فرض نفسها كلاعب مهم في المعادلات الإقليمية والدولية، كما تفعل تركيا الشيء نفسه، من خلال صراعهما المستمر في إدلب، وهو ما يبقي المنطقة صندوق بريد يمرر عبره كل طرف رسائله إلى الآخر، ويبقي الساحة السورية مسرحاً لهذا التصعيد، ويبقى الوطن السوري رهينة هذا الصراع، ويبقى المواطن السوري ضحيته الأولى.

تقرير/ لطفي توفيق