تحقيق/ مرجانة إسماعيل
في أحد أيام شهر أيار، كان علي، طالب في كلية الهندسة المدنية بجامعة دمشق، يستعد للذهاب إلى محاضراته كعادته، لكنه لم يكن يعلم أن يومه سيشهد بداية مرحلة جديدة من الخوف والقلق. في تلك اللحظات، كانت ابن مدينته السويداء، ليلى، طالبة في كلية الآداب، تعيش نفس القلق في السكن الجامعي، حيث أصبح الشك والخوف يسيطران على كل لحظة من حياتها اليومية.
“كنت في السكن الجامعي، وأفكر في كيفية إنهاء دراستي في أمان، عندما بدأت التوترات الطائفية تتصاعد حولنا”، يقول علي وهو يروي مأساته. “منذ أن انتشرت شائعات عن تسريب صوتي مسيء، بدأت الأمور تتدهور. كان هناك تهديدات وتحركات من طلاب آخرين ضدي بسبب انتمائي الديني، وفي إحدى الليالي، شعرت أنني في خطر حقيقي”.
ليلى، التي تتشارك في نفس السكن الجامعي، تقول بصوت منخفض: “الأمر كان أشبه بكابوس، كنا نرى المواقف العدائية تزداد يوماً بعد يوم. كلنا نعرف أن البعض في السكن بدأ ينظر إلينا بعين الريبة فقط لأننا من السويداء. لم نكن نعلم ما سيحدث لنا بعد ذلك، كان الخوف يلاحقنا في كل خطوة”.
من هذه القصص الشخصية تبدأ مأساة طلاب السويداء في دمشق، الذين أصبحوا يجدون أنفسهم في مواجهة تهديدات غير مباشرة بسبب انتمائهم الطائفي. أصبح وجودهم في الجامعات السورية في خطر، ليس بسبب الحروب أو القتال، ولكن بسبب التوترات الطائفية التي انفجرت مؤخراً في مناطق متعددة.
القصة وراء الفيديو مغادرة السكن الجامعي
تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر مغادرة طلاب من محافظة السويداء السكن الجامعي في دمشق. أثارت تلك الفيديوهات ردود فعل واسعة، حيث تصدرت منصات التواصل الاجتماعي، وانتقدها العديد من رواد الإنترنت باعتبارها دليلاً جديداً على تصاعد المخاوف الطائفية في الجامعات السورية.
وعن هذا الموضوع، يضيف علي: “الفيديوهات التي نشرتها وسائل الإعلام لم تكن سوى بداية، فقد كانت الأحداث تتسارع أكثر مع كل يوم. في النهاية، شعرنا أنه لم يعد هناك أمان، خاصة بعد الاعتداءات الجسدية على زملائنا في السكن الجامعي في حمص ودمشق”.
وفي الوقت الذي أكد فيه المسؤولون في سلطة دمشق على استقرار الوضع الجامعي، بما في ذلك تصريحات وزير التعليم العالي الدكتور مروان الحلبي، الذي نفى أن تكون الفيديوهات المتداولة تعكس الحقيقة، كانت الحقيقة مختلفة تماماً في أرض الواقع. ومع غياب الإجراءات الأمنية الصارمة، بدأ الطلاب الدروز من السويداء في مغادرة السكن الجامعي إلى مناطقهم خوفاً على حياتهم.
“تحدث الوزير عن استقرار الأوضاع، لكن الحقيقة أننا نعيش في حالة خوف دائم”، تقول ليلى، “الشعور بالأمان أصبح بعيداً جداً عن الواقع، فنحن نتعرض للمضايقات دون أن نرى أي حماية رسمية”.
بيان طلاب السويداء: “التهديد بالموت هو واقعنا الآن”
في بيان أصدره طلاب السويداء، عبّروا عن أسفهم الشديد لعدم تمكنهم من إتمام تعليمهم في ظل هذه الظروف: “أصبح وجودنا في الجامعة يُهددنا بالموت. في الوقت الذي يُكمل فيه أصدقاؤنا من باقي الطوائف دراستهم بشكل طبيعي، نحن نُحتجز في بيوتنا بالقوة، بسبب تهديدات غير مباشرة، ونظرات حقد، ومواقف عدائية لا ذنب لنا فيها”.
طالبوا في بيانهم السلطات المختصة بضرورة التدخل لحمايتهم، وتوفير الأمان لهم لمواصلة تعليمهم دون خوف أو تهديد.
استمرت عمليات الإجلاء الجماعي لطلاب السويداء، حيث تم إجلاء أكثر من 300 طالب من جامعة حلب، وكذلك العديد من الطلاب من جامعات دمشق وحمص. ورغم أن بعض المسؤولين الحكوميين قد صرحوا بأن الوضع مستقر، إلا أن التوترات الطائفية والاحتقان بين الطلاب كانت تشكل تهديدًا حقيقيًا لاستمرار العملية التعليمية في تلك الجامعات.
في هذا السياق، يختتم علي قائلاً: “لم نكن نتوقع أن يصبح تعليمنا في خطر بسبب هويتنا الدينية. ولكن اليوم أصبحنا مجبرين على مغادرة المكان الذي كنا نأمل أن نبني فيه مستقبلنا”.
الطائفية تنهش سوريا.. هل تنجو البلاد من سعارها؟
في ظل الأحداث المتسارعة التي تشهدها سوريا، تقف البلاد على حافة هاوية جديدة، حيث تتصاعد التوترات الطائفية والعسكرية وتتهدم محاولات إعادة الاستقرار تحت وطأة العنف والانقسامات. إن ما يحدث اليوم ليس مجرد صراع عسكري أو سياسي فحسب، بل هو اختبار حقيقي لسلطة دمشق، إذ أن ما نراه من تطورات ليس سوى فوضى عارمة تختفي خلف شعارات براقة.
الطائفية عادت اليوم بقوة، مدعومة بخطاب تحريضي يغذيه انعدام الثقة بين المكونات الاجتماعية المختلفة. هذا الوضع يبعث على القلق، حيث تذكّرنا الأحداث الحالية بمشاهد الحرب الأهلية التي تم فيها استخدام الطائفية كأداة لتأجيج الصراع، وهو ما يهدد بإعادة تقسيم البلاد إلى فوضى أكبر.
وعقب سقوط نظام الأسد كان هناك احتفالات في الشارع السوري، ردد المشاركون فيها شعارات تشير إلى وحدة الصف السوري، داعين إلى أن الأساس في سوريا هو المواطنة لا الدين ولا العرق. وبالرغم من ذلك، كان الشارع السوري يبدو وكأنه يخشى أن تنتهي نشوة الانتصار ليجد نفسه في دوامة حرب طائفية. هذا الخوف يتزايد خاصة بعد صبغة اللون الواحد التي امتازت بها سلطة دمشق.
من هنا، لا يمكن فهم ما يحدث في سوريا اليوم دون النظر إلى الدور الإقليمي والدولي. فالدعم الذي تتلقاه بعض الفصائل المسلحة، إضافة إلى الوجود العسكري الروسي والأميركي في البلاد، يلعب دوراً كبيراً في تعقيد الوضع. ففي حين تدعي بعض القوى الدولية أنها تدعم “الاستقرار”، إلا أن أفعالها على الأرض غالبًا ما تصب في خدمة أجندات خاصة تزيد من تأجيج الصراع.
روسيا، على سبيل المثال، تعتبر حليفاً رئيسياً للنظام السابق، ولا تزال تحلق طائراتها في أجواء المنطقة وكأنها ترسل رسالة مفادها أنها لن تسمح بتغيير موازين القوى لصالح أي طرف آخر. هذه الرسالة لا تعكس إلا رغبة موسكو في إبقاء الوضع الراهن من دون تغيير، مما يزيد من تعميق الأزمة ويعزز من قدرة مناصري النظام في دمشق.
منذ اللحظة الأولى لتحرر سوريا من قبضة نظام آل الأسد، كان من الواضح أن الطريق لاستعادة السيادة والعافية سيكون صعباً ومليئاً بالعقبات الداخلية والخارجية التي لا تريد لسوريا أن تنهض مجدداً. فالدولة التي أنهكتها سنوات من القمع والحرب، والتي جردتها الطغمة الحاكمة من هويتها وتاريخها، وجدت نفسها في مواجهة قوى إقليمية ودولية تهدف إلى منع سوريا من أن تصبح دولة موحدة ذات سيادة.
على رأس هذه القوى، تبرز إيران وإسرائيل كخصمين في الظاهر، ولكنهما يتقاطعان في الجوهر حين يتعلق الأمر بسوريا. فكلا البلدين، شأنهما شأن نظام الأسد، يحرصان على إبقاء سوريا دولة هشة وممزقة، ومحرومة من مشروعها الوطني. سوريا في ظل حكم الأسد لم تكن دولة مؤسسات ومواطنة، بل كانت رهينة لنظام فردي قمعي صادر تاريخها وأجهزتها الوطنية، مما عطل قدرتها على الاستفادة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي.
اليوم، لم تعد سوريا قادرة على تحمل المزيد من التشرذم الطائفي، فقد تفكك نسيجها الاجتماعي في مناطق عديدة مثل حمص وحلب والغوطة ودرعا وإدلب. والآن، تفكك هذا النسيج يتزايد في دمشق وعلى طول المناطق الساحلية. فهل يمكن إعفاء السلطة في دمشق من مسؤوليتها عن الأحداث الطائفية الأخيرة التي اشتعلت في سوريا؟
شبكات خارجية تحرض على الطائفية
في الوقت الذي تشهد فيه سوريا تحولات سياسية وأمنية عميقة، كشف تحقيق استقصائي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” عن وجود شبكات حسابات خارجية منظمة تنشط على منصة “إكس” (المعروفة سابقاً باسم تويتر)، تعمل على تأجيج الطائفية، ونشر خطاب الكراهية، إلى جانب ترويج معلومات مضللة حول الأوضاع الداخلية في البلاد.
وأوضح التحقيق أن هذه الشبكات لا تتحرك بعشوائية، بل تُدار بشكل منسّق ومنهجي ضمن حملات إلكترونية واسعة تستهدف سلطة دمشق وبعض الأقليات، بالتزامن مع التغيرات السياسية المتسارعة على الساحة السورية.
وقد تمكّن فريق “بي بي سي” لتقصي الحقائق من تتبّع نشاط هذه الحسابات من خلال رصد أكثر من مليوني منشور مرتبط بالأحداث في سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد، حيث تم تحليل عينة واسعة شملت أكثر من 400 ألف منشور على منصة “إكس”.
وتوصّل التحقيق إلى أن هذه المنشورات مرتبطة بحملات تضليل ممنهجة وخطاب كراهية منظم، نُشر من قبل منتقدي ومؤيدي سلطة دمشق على حد سواء.
واستخدمت هذه الشبكات أساليب تلاعب رقمية متطورة، شملت تفعيل الحسابات الوهمية والبرمجية، واستغلال خوارزميات المنصة للهيمنة على الخطاب الإلكتروني. كما لجأت إلى تكتيكات مثل النشر المتزامن، إعادة استخدام محتوى قديم، ونسج روايات ملفقة ذات طابع تحريضي ومؤثر.
نماذج من التضليل والتزوير
أورد التقرير أمثلة على المنشورات المضللة، منها ادعاء كاذب نُشر في 9 آذار حول إعدام كاهن كنيسة مار إلياس على يد عناصر سلطة دمشق، وهو ما تبين لاحقاً أنه غير صحيح بعد نفي رسمي من الكنيسة. ورغم ذلك، انتشرت المنشورات المتطابقة على نطاق واسع خلال أقل من ساعة.
كما استُخدم مقطع فيديو قديم يعود إلى عام 2013، زُعم أنه يُظهر رجلاً يدمّر تمثالاً للسيدة مريم العذراء، على أنه مرتبط بأحداث جارية في كانون الأول 2024. وقد روّجت لهذا الفيديو حسابات متمركزة في العراق، تُعرف بنشاطها في دعم قيادات شيعية، ما أثار موجة غضب واسعة على منصات التواصل.
كشفت “بي بي سي” عن مؤشرات واضحة على التلاعب المنسّق، تمثّلت في التشابه الزمني بين المنشورات، وتسلسل الأسماء الرقمية للحسابات مثل “قاصف 1″ و”قاصف 2” و”قاصف 3″، ما يدل على استخدام حسابات آلية ضمن حملات منظمة لإغراق النقاشات.
كما لاحظ الفريق تكراراً في أنماط الأسماء، إذ تحمل العديد من الحسابات مزيجاً عشوائياً من الحروف والأرقام، وهي سمة شائعة في الحسابات الوهمية المُعدّة خصيصاً لخدمة أغراض التضليل الرقمي.
إلى جانب الحملة المناهضة، رصد التحقيق أيضاً حملة موازية مؤيدة لرئيس سلطة دمشق أحمد الشرع، تضمّنت أكثر من 80 ألف منشور مصدرها الأساسي حسابات تنشط في تركيا والسعودية. استخدمت هذه المنشورات خطاباً موحداً لتقديم الشرع كقائد إصلاحي، في نمط يُشبه تماماً الحملات المعادية.
وأشارت “بي بي سي” إلى وجود تشابه في أساليب التضليل المستخدمة في كلا الحملتين، مع تكرار المحتوى، واستخدام الأتمتة، ونشاط مريب يُثير الشكوك حول عمليات تضخيم إلكترونية منظمة.
تحريض على العنف ضد العلويين
في جانب آخر، بيّن التحقيق وجود شبكة واسعة من الحسابات التي تنشر خطابات كراهية وتحريض مباشر ضد الطائفة العلوية في سوريا.
ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2024، رصد فريق “بي بي سي” أكثر من 100 ألف تعليق على منصة “إكس” تضمّنت عبارات طائفية، واتهامات مباشرة للعلويين بـ”الكفر”، و”الإجرام”، و”الانتماء لطغمة فاسدة”. وتم تحديد المواقع الجغرافية لغالبية هذه الحسابات في السعودية وتركيا.
وردّت كلمة “كفّار” في أكثر من 50 ألف تعليق، بينما استُخدمت كلمة “مجرمون” في أكثر من 48 ألف مرة، في دلالة على استهداف ممنهج.
وفي سياق متصل، وخلال أحداث العنف التي شهدتها مدينة جرمانا بريف دمشق في أبريل الماضي، رُصدت حملة تضليل استُخدم فيها تسجيل صوتي مفبرك نُسب إلى أحد مشايخ الطائفة الدرزية، الشيخ مروان كيوان، يتضمن إساءات للرسول محمد.
وقد تسبب التسجيل الملفق في اندلاع اشتباكات عنيفة في المنطقة، أسفرت عن قتلى وجرحى. ونفى الشيخ مروان بشكل قاطع علاقته بالتسجيل، مؤكداً أن الهدف من فبركته هو زرع الفتنة وتأجيج العنف بين مكونات المجتمع السوري. وأكدت وزارة الدفاع التابعة لسلطة دمشق أن التسجيل مزوّر ولا يمت للمذكور بأي صلة.
وفقاً لتحقيق “بي بي سي”، فإن الخطاب الطائفي شهد تصاعداً ملحوظاً، حيث تنشط الحسابات التحريضية بشكل مكثف تزامناً مع كل موجة عنف، مما يعزز احتمالات وجود تنسيق مبرمج يهدف إلى تفجير النسيج الاجتماعي السوري.