تفتح استعادة إسرائيل لأرشيف إيلي كوهين من سوريا، في هذا التوقيت الحساس، نافذةً تحليليّة على التحولات الجارية في العلاقة بين دمشق وتل أبيب، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد في أواخر عام 2024، وما تبعه من تغيّرات ميدانية وسياسية في بنية السلطة السورية.
إيلي كوهين ليس مجرد جاسوس إسرائيلي في الذاكرة السورية، بل رمز لـ”الاختراق الإسرائيلي” للسلطة البعثية في ذروة توترها مع إسرائيل. لذلك فإن استعادة أرشيفه – وفيه وصيته بخط اليد – لا يمكن قراءتها كعملية استخباراتية معزولة، بل كصفقة سياسية ذات مغزى عميق، تشير إلى وجود قناة تفاوض خلف الستار، ودرجة غير مسبوقة من التفاهمات الأمنية.
ففي السياسة، لا تُفرج الدول عن رموز تُعد من خصومها التاريخيين، إلا إذا كانت هناك مصلحة أكبر تدفعها لذلك. وهنا تتقاطع الوثائق مع السياق السياسي الحالي، حيث تسعى سلطة دمشق إلى تجاوز إرث الصدامات العقائدية، وفتح صفحة جديدة مع القوى الإقليمية، بما فيها إسرائيل.
تكشف المعلومات المسرّبة عن وساطة إماراتية مكثّفة بين الجانبين، وهو ما يعكس دور أبوظبي المتصاعد كقناة خلفية لربط إسرائيل بدول ما بعد الحروب. فمنذ اتفاقات أبراهام، باتت الإمارات وسيطاً موثوقاً في أعين تل أبيب، وقد وجدت دمشق في هذا الدور فرصة للولوج إلى خارطة التفاهمات الإقليمية دون أن تتكبد كلفة سياسية مباشرة.
اللقاءات التي جرت داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية – بمشاركة وفد سوري يتضمن مسؤولاً أمنياً – تؤكد أن الحوار تجاوز البُعد الإنساني إلى بحث ملفات أمنية أوسع، ربما تشمل الترتيبات على حدود الجولان، ومستقبل النفوذ الإيراني في جنوب سوريا، وهو ما تعتبره إسرائيل أولوية قصوى.
رغم غياب أي إعلان رسمي عن تطبيع العلاقات، إلا أن المؤشرات على الأرض توحي بتحوّل تدريجي. السماح لوفد ديني درزي بزيارة مقام النبي شعيب في إسرائيل، ونقل مصابين دروز للعلاج هناك، هي خطوات رمزية لها وزن سياسي في مجتمع لا تزال فيه إسرائيل تُعد “العدو التاريخي”.
كما أن حديث ترامب عن موافقة أحمد الشرع على الانضمام إلى اتفاقات أبراهام – رغم طابعه الاستعراضي – لا يخلو من الواقعية السياسية، خاصة إذا ما اقترن بجهود رجال أعمال إسرائيليين للولوج إلى السوق السورية، كما كشفت تقارير إعلامية.
دمشق اليوم ليست دمشق ما قبل 2011، ولا حتى ما قبل سقوط الأسد. النخبة السياسية الجديدة، بقيادة أحمد الشرع، تتبنى خطاباً براغماتياً يقوم على الأولويات الاقتصادية وإعادة الإعمار، لا على شعارات “المقاومة”. وهذا الخطاب ينسجم – ظاهرياً – مع الرغبة الإسرائيلية في “جبهة هادئة”، ويدخل ضمن السياق العام لتحوّلات المنطقة نحو التهدئة وإعادة التموضع.
لكنّ الصمت السوري الرسمي، أو ترديد عبارات عمومية مثل “سوريا الجديدة لن تكون مصدر تهديد”، يكشف عن صراع داخلي في دوائر القرار السوري بين التقدم نحو تسوية شاملة مع إسرائيل، والحرص على عدم خسارة الحاضنة الشعبية التي لا تزال تحتفظ بعداء متجذر تجاهها.
الوقائع تشير إلى أن ما يجري الآن هو مرحلة تحضيرية – استخباراتية وأمنية – تمهيداً لمسار سياسي قد يشبه نموذج “كامب ديفيد”، لكن بنكهة شرق أوسطية جديدة، تقوم على التطبيع التدريجي مقابل رفع العزلة واستقطاب الاستثمارات، لا على انسحاب إسرائيلي مباشر.
وربما لن يتأخر الزمن كثيراً حتى نرى لقاء علنياً بين مسؤول سوري وإسرائيلي، أو حتى إعلاناً رمزياً عن فتح قنوات دبلوماسية، خاصة إذا ما واصلت سلطة دمشق تثبيت شرعيتها الداخلية، وضمن غطاء عربي– أمريكي لذلك.
تحرّك إسرائيل لاستعادة أرشيف جاسوسها من سوريا هو تتويج لمرحلة انتقالية حرجة في الشرق الأوسط. إنه إعلان غير مباشر عن بداية نهاية “حالة الحرب” بين دمشق وتل أبيب، وبداية لتفاهمات جديدة تتجاوز العداء الكلاسيكي، وترسم ملامح شرق أوسط تعيد فيه العواصم المتخاصمة ترتيب أولوياتها… وتعيد فيه أيضاً كتابة التاريخ، لا بل حذفه أحياناً.