لكل السوريين

أقفاص حديدية لتنظيم الدور، واتهامات بالسرقات، وأعذارٌ مخجلة.. أزمة الخبز تخنق العاصمة

السوري/ دمشق ـ شهدت دمشق ومازالت، أزمة خبز خانقة، يصطف المواطنون جرائها لساعات أمام الأفران بهدف الحصول على ربطة خبز واحدة تسد جوعهم، في وقت تتفاقم فيه الأزمة، ولا تزال الحكومة عاجزة عن حل المشكلة، ويوما بعد يوم تتناقض التصريحات حول الأزمة وأسبابها.

طوابير ضخمة من المواطنين ينتظرون أمام الأفران، أملاً في الحصول على رغيف خبز، تزامنا مع انتشار جائحة كورونا، وستصبح أطول مع قرار حصول السوريين على الخبز من الأفران الحكومية عبر البطاقة، مما يشكل بيئة خصبة لانتشار الفيروس.

أسباب ومبررات

بحسب موقع “اقتصاد عربي”، إن المدير العام للمؤسسة السورية للمخابز، زياد هزاع، عزا سبب الازدحام الحاصل على الأفران إلى توقف بعض مخابز القطاع الخاص عن العمل نتيجة أعمال الصيانة واستجرار الدقيق بطرق غير مشروعة، وبالتالي التوجه إلى المخابز العاملة الأخرى، مضيفاً أن اعتماد بعض المطاحن على القمح القاسي يؤدي إلى توقف بعض الخطوط نتيجة واقع الكهرباء وتذبذبها.

إلا أن المهندس “محمد شباط”، وهو عامل سابق في محافظة دمشق، قال: “إن هذه “ذرائع واهية”، وأكد أن السبب الحقيقي نقص القمح والطحين وانتشار الفوضى وبيع الطحين في الأسواق بأضعاف سعره.

ويكشف “شباط” أن وزارة التجارة الداخلية عاجزة عن تأمين مخصصات الأفران، ما خلق سوقاً موازياً للخبز وبيع “الربطة بألف ليرة” على مرأى ومسمع دوريات التموين أمام أفران ابن العميد بمنطقة ركن الدين في دمشق.

وحول الأسباب التي زادت من أزمة الخبز، “أن السبب الأول يعود إلى تأخّر وصول القمح الذي تعاقدت عليه الحكومة مع روسيا بتوريد 200 ألف طن، وتأخر مناقصة من الدول الأوروبية بالكمية نفسها، ما دفع المؤسسة العامة للحبوب في سورية إلى إعلان حاجتها، وبالسرعة الكلية، إلى توريد كمية 15 ألف طن بسعر 230 دولاراً للطن على ظهر الباخرة إلى المرافئ السورية، على أن تتكفّل الحكومة بالتخليص والإدخال والتوزيع.

أما السبب الثاني، فيتمثل في تراجع إنتاج القمح في سورية من نحو 4 ملايين طن إلى أقل من 1.5 مليون طن واستلام الحكومة نحو 500 ألف طن فقط من الإنتاج، ما دفع الحكومة منذ الربيع الماضي إلى توزيع الخبز عبر البطاقة الذكية بمعدل أربع ربطات للأسرة الواحدة.

من جهة أخرى، تزامنت أزمة الخبز، مع أزمة عدم توفر المحروقات اللازمة لتشغيل الأفران، وذكرت مصادر محلية عدة أن بعض الأفران في مدينة دمشق توقفت عن العمل منذ منتصف الأسبوع الفائت.

مؤكدة أن توقف بعض الأفران تسبب بمشاهد ازدحام وطوابير طويلة على الأفران التي لا تزال تعمل، مثل أفران ابن العميد في حي ركن الدين، وأفران المزة، وأفران حي الميدان.

أسباب إضافية

تحدثت مصادر أخرى عن قيام بعض موظفي الأفران بتمرير مادة الخبز بشكل غير رسمي لتجار يقومون ببيعها بسعر أعلى من السعر المحدد.

وقالت “مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك” في دمشق، إن دورياتها ضبطت عدداً من مشرفي وباعة الخبز يقومون ببيع الخبز خارج الأفران بسعر 500 ليرة سورية للربطة الواحدة، موضحة أن هؤلاء المشرفين والباعة يشترون كميات من الخبز من موظفي الأفران، الذين يبيعونهم بدورهم دون الوقوف في طابور كوات البيع ودون بطاقة إلكترونية، عبر الأبواب الجانبية للمخابز، مقابل سعر يتراوح بين 2000 و3000 ليرة سورية لكل عشر ربطات.

وأكد مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، “عدي شبلي”، أنه حسب اعترافات الأشخاص ومعظمهم شباب يافعون ونساء، أن مشرفي وعمال المخابز الذين يتعاملون معهم هم من مخابز حي ركن الدين، ومخبز الهجرة والجوازات، ومخبز الشريبيشات، والتي تعمل بنظام الإشراف.

من جانب أخر أوضح هزاع في حديث مع إذاعة “أرابيسك”، أن “الدقيق متوفر، ويتم توريد 5400 طن على مستوى سوريا”، مشيراً إلى أن حاجة المواطن ربطتان فقط من الخبز، ويُقدم له عبر البطاقة الذكية أربع ربطات، متهماً بعض المواطنين باستجرار مادة الخبز لبيعها خبزا علفيا.

كما أشار إلى ازدياد حالات الاتجار غير المشروع بالدقيق التمويني، كاشفاً عن مصادرة 1600 طن من الدقيق المهرّب منذ بداية العام الحالي، وتنظيم 1780 ضبطاً ما بين اتّجار بالمادة، والتصرف بالخبز العلفي، ونقص الوزن، ومخالفات تتعلق بصناعة الرغيف.

وأوضح أن “هناك فارقا سعريا لمادة الخبز بين القطاعين العام والخاص، حيث يباع كيلو الدقيق للمخابز الحكومية بـ 18 ليرة، بينما يبلغ سعره بالقطاع الخاص 650 ليرة، وكذلك يصل كيلو الخميرة على المخابز الحكومية والخاصة بسعر 737 ليرة، بينما يباع في السوق بحوالي 6000 ليرة، الأمر الذي يؤدي إلى تجارة غير مشروعة بين القطاعين”.

الأهالي لاحول ولا قوة لهم

عدد كبير من الأهالي عادوا للأساليب القديمة لإنتاج الخبز وتدبير أمور معيشتهم، وذلك من خلال قيامهم بصنع “خبز الصاج” المعروف في أرياف دمشق.

تقول “الحاجة أم دعاس” البالغة من العمر 72 عاما لموقع تلفزيون سوريا: إنها مجبرة على شراء طحين المعونات لعدم توفر الطحين العادي لتقوم بـ إعداد خبز “الصاج” في منزلها.

إحدى السيدات عند فرن “الشيخ سعد في منطقة المزة قالت: “مشان ربطة خبز بدي وقف ساعات هاد الشي عيب، الربطة برا الفرن ب-500 ليرة، وأحيانا ب-1000 مين قادر يدفع حقها؟ النسوان تاركة ولادها وجاي توقف على دور الخبز 5 ساعات مشان الله لاقولنا حل لهاد الذل يلي نحن في، ربطة خبزة وحدة لـ 5 أشخاص هي مو عيشة والله”.

“أبو محمد”، رجل سبعيني، قال: عم انتظر أكتر من خمس ساعات لأخد ربطة خبز، والناس بالميات يومياً عم ينتظروا من الستة الصبح لحتى يسكر الفرن وممكن ياخدو وممكن ما ياخدو والله عيب اللي عم يصير.

“أيهم” طالب جامعي قال: اللي عم يصير بخليك تجن، أنا مسؤول عن عيلتي كل يوم بشوف هالزحمة والمآسي، والذل، وفوق هيك الخبز ما بيتاكل، غير انو الكورونا من ايد لايد ما عم ناول بعض الخبز، اي راح ياخدنا الوبا هيك لا سمح الله.

وما زاد الطين بلة صورة الزحام داخل القفص الذي وضع في أفران “ابن العميد” بدمشق، والتي سرعان ما انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مع تعليقات تشير إلى أن أزمة الحصول على الخبر تجاوزت مسألة النقص الحاد في المادة، وتقنينها الشديد، لتصل إلى ما صار يمس الكرامة بوضوح في الحصول على الرغيف، حسب تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي.

البعض شبه تلك الأقفاص التي أظهرتها الصور بالأقفاص التي يوضع الدجاج داخلها، والبعض الآخر ذهب لتشبيهها بالزنازين المتحركة، التي يوضع فيها المجرمون، ولكن الجرم الحقيقي هو أن المواطن يستعد لفعل أي شيء ممكن أو غير ممكن للحصول على قوت أطفاله، كما قال مجد أبو عدنان أحد سكان حي التضامن في العاصمة.

ورغم أن تلك الأقفاص، لا تقتصر على أفران “ابن العميد” إذ أن ثمة أفرانا أخرى استخدمت الطريقة ذاتها، إلا أن حالة الزحام الشديد هي ما جعلتها تبدو بتلك الطريقة “غير الإنسانية” كما أشار عدد من السوريين على صفحاتهم الشخصية، أو في تعليقات على الصورة.

مدير مخابز دمشق “نائل اسمندر” رفض إعطاء تصريح لـ المدينة-إف -إم، واكتفى بالقول “إن هذه الطريقة هي لتنظيم الدور والفصل بين الرجال والنساء وجنود الجيش، كما أشار إلى أن (ثقافة الدور) غير موجودة في بلادنا حسب تعبيره.

يذكر أن محافظة دمشق قامت بإزالة القفص الحديدي من أمام أفران ابن العميد في ركن الدين، بعد الانتقادات الهائلة.

وحول توقع ارتفاع الأسعار، يتوقع “الاقتصادي السوري” أنه إذا سحبت الحكومة الدعم عن الخبز، سيرتفع سعره بنسب تهاوي سعر الليرة، كما حدث للمواد التي سحبت الدولة عنها الدعم، مثل السكر والأرز، والحكومة موضحة “إن قيمة العجز التمويني الناتج عن دعم الخبز تصل إلى 378 مليار ليرة سورية سنوياً، نتيجة الفرق بين سعر ربطة الخبز المدعومة البالغة 50 ليرة، وبين تكلفتها التي تتجاوز 200 ليرة”.

ولكن إلى متى؟

مع أن جميع المحافظات السورية القابعة تحت سيطرة حكومة دمشق لا تزال تعاني من أزمة انقطاع الخبز، إلا أنه إلى الآن لا توجد بوادر لحل الأزمة، في وقت يتساءل فيه مواطنون عن مدى قدرة دمشق على حل هذه المعضلة التي إن استمرت أكثر ربما ستؤدي إلى ثورة جياع، كما تحدثت بعض الوسائل الإعلامية.

الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأزمة هو أن المناطق الزراعية التي تقبع تحت سيطرة الحكومة المركزية لا تزرع بالقمح، وإنما تعتمد على الأشجار المثمرة والبساتين، من زيتون وحمضيات، وبعض الأشجار الأخرى.

وتعد منطقة شمال شرق سوريا من أكثر المناطق التي تزرع فيها مادتي القمح والشعير، ومع أن الإدارة الذاتية حاولت أكثر من مرة مساعدة السوريين الذين يعانون الجوع في مناطق سورية أخرى، إلا أن حكومة دمشق لم تبد أي اهتمام حيال ذلك، وفضلت استمرار الاعتماد على الجانب الروسي، الذي لم يعد قادرا على مد دمشق بمساعدات أخرى.

فروسيا التي منذ أكثر من أربعة أعوام تساعد دمشق في أزماتها سواء عسكريا أو اقتصاديا أو حتى سياسيا أبدت أكثر من مرة عبر مسؤولون روس أنها أصبحت بحاجة لاسترداد قيمة الخسائر التي قدمتها لدمشق.

وعلى الرغم من أنها استثمرت الساحل السوري ومطار القامشلي الدولي إلا أن هاتين النقطتين بالتحديد لا يكفيان لسد ما خسرته روسيا، حيث أن قانون قيصر المفروض على دمشق ألقى بظلاله على الموانئ السورية، ومطار القامشلي ليس كمطار دمشق أو حلب حتى تتم الاستفادة منه اقتصاديا.

تقرير/ روزا الأبيض