لكل السوريين

الوصاية التركية الانتهازية

بين العرب اليوم من يريد عودة العثمانية إلى بلاده والمنطقة، إما ادعاءً بالحاجة إلى “نهضة” إسلامية يقودها رجب طيب أردوغان، أو حلماً بالتبعية لإمبراطورية يخشاها العالم بأكمله. المشترك بين الخيارين هو الوصاية التركية التي تمثل الحل، ومن دونها لا يمكن لدول المنطقة تقرير مصيرها بنفسها.

قبل كل شيء لا تحتاج المنطقة العربية إلى “نهضة” أو “ثورة” إسلامية. فالمحاولة التي قامت بها إيران عام 1979 بسطت هيمنة الخمينيين على أربع دول عربية. وفي أولى بدايات المحاولة التركية أو”العثمانية” الجديدة وضعت ليبيا وقطر ومناطق في سوريا والعراق تحت إمرة “السلطان” أردوغان.

لا ينقص دول المنطقة التدين والإيمان. ما يلزمها هو فقط التحول إلى مجتمعات قانون ومواطنة. وهذا لا يحتاج إلى وصاية أية دولة أجنبية، مسلمة أو غير مسلمة. ما يجب أن نعترف به هو أن المنطقة العربية تحولت إلى مشاريع دول مستقلة بعد استقلالها عن العثمانيين والأوروبيين. لم يعد يهم كيف ولماذا، ولا يفيد البكاء على الأطلال. إن كان أحد يظن أن فشل اكتمال هذه المشاريع سببه “ابتعادنا عن الله”، أو التخلي عن عروبتنا، أو هزائمنا أمام إسرائيل، فهو واهم.

معرفة أسباب الفشل تحتاج إلى دراسات معمقة تبدأ من تآمر أنظمتنا المستبدة مع الاستعمار القديم والحديث على حياتنا. ولكن مهما كانت نتائج هذه الدراسات فلن تجد بين التوصيات ما يدعو للعودة إلى أحضان الاحتلال العثماني، ويبرر سعي أردوغان وأبواقه إلى فرض الوصاية التركية على بلادنا.

لا تفيد وصاية أردوغان إلا أنظمة تخشى أن تسقط، أو جماعات متطرفة تحلم بالحكم. والمطبلون لها هم المستفيدون ماليا أو سياسياً من هذه الفئة أو تلك. هؤلاء لا يهمهم ماذا يمكن أن يحل بالدول التي تفرض عليها الأردوغانية، ولا يكلفون أنفسهم مشقة البحث في واقع الأتراك أنفسهم اليوم بسببها.

ما هي حجج المبشرين بالعثمانية الجديدة؟ يقولون إن أردوغان زعيم الأمة الإسلامية والمنتظر لرفع رايتها، وهذا ما كان يردده أبواق زعيم داعش. يرونه نصيرا للاجئين المستضعفين، ويغمضون أعينهم عن حقيقة أنه يجعلهم مرتزقة يحاربون على جبهاته، أو أوراقاً لتصفية حساباته مع الأوروبيين.

يجذب “السلطان” أنصاره بدعمه للشعوب المضطهدة من حكامها، ولكنك لا تعرف لماذا يكون المتطرفون وتجار الدم والحروب أكثر الفئات استفادة من دعم أردوغان. ناهيك عن أن “السلطان” يضطهد الأتراك أنفسهم كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، وما أدل على ذلك من سجنه عشرات الآلاف من المعارضين له، والتراجع الكبير الذي طال الحريات ونزاهة القضاء التركي في عهده.

للدولة العثمانية ما لها وما عليها في تاريخها، ولكن ما يمسنا في ذلك التاريخ أنها كانت تحتل دولنا ومنطقتنا. كل القواسم المشتركة بيننا وبين العثمانيين سابقاً والأتراك اليوم، لا تلغي هذه الحقيقة، ولا يمكن أن تعتبر مسوغا لقبول الوصاية الأردوغانية، ولا تنفع لتنصيب أردوغان نفسه “خليفة” للمسلمين.

انتهازية هي اللعبة التي يمارسها أردوغان ويحاول من خلالها تصدير نفسه كأمير للمؤمنين. وقد تكشفت انتهازيتها بشكل جلي عقب أزمة ذبح معلم التاريخ الفرنسي بيد إرهابي من أصل شيشاني. كعادته لم يتأخر “السلطان” في هجومه، وزج بالأزمة في أتون خلافه مع الرئيس إيمانويل ماكرون.

يتمنى “السلطان” لو يشعل حرباً عالمية على خلفية أزمة المعلم الفرنسي، فالحروب تمثل خلاصه الوحيد من مواجهة إخفاقاته المتراكمة. لكن لسوء حظه لن يحدث هذا، وسيفشل أردوغان في مساعيه، تماماً كما حدث معه في شرق المتوسط وليبيا وسوريا وإقليم ناغورني قره باغ في بلاد القوقاز.

لا نبالغ بالقول إن حال “السلطان” اليوم أسوأ مما كان عليه قبل أشهر فقط. فالولايات المتحدة قد دخلت بقوة على خط أزماته وجبهاته الخارجية، ووضعت له خطوطاً حمراً من شأنها أن تزيد المشهد تعقيداً أمامه، وتضاعف من عمق مصائبه الداخلية، وعلى الأخص الاقتصادية منها.

التصعيد الأميركي ضد أردوغان يؤكد أنه لا جدوى من الحديث معه، وحثه على السلام. أما السبب فقد لخصه ببساطة ووضوح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس عندما قال إن “السلطان” في أزمته الجديدة مع الرئيس الفرنسي، “بلغ مستويات متدنية جدا”. ولا يبدو أن أحداً يريد الانحدار إليها.

لا أحد من خصوم أردوغان يحتاج إلى سماع المزيد عنه، ولا أحد يتوقع منه تصحيح مسار سياساته الخارجية. لسان حالهم يقول ببساطة إن كان “السلطان” قادرا على فرض وصايته على الأمة الإسلامية فليفعل، وإلى أن يحين ذلك، سيفعل الجميع ما لخصه وزير التجارة الفرنسي بجملة تقول، إن بلاده لن تعامل أردوغان بالمثل ولن تقاطع المنتجات التركية القادمة إلى أسواقها.

الوزيران الفرنسي والألماني يشبهان أشخاصا كثرا جداً في العالم العربي، يعرفون أن الحماسة الأردوغانية اليوم ضد باريس ما هي إلا لعبة سياسية جديدة. ويعرفون أكثر أن “السلطان” لن يكون وصيا إلا على مرتزقته وأبواقه بين المسلمين، وكلما أمعن في انتهازيته استهلك من رصيده السياسي والأخلاقي.

بهاء العوام