تولي نساء الريف، وبشكل خاص في شمال سوريا، اهتماماً بالغاً بصناعة الجبنة البلدية في مثل هذا الوقت من السنة، حيث تُعدّ من أساسيات مؤونة الشتاء، وتشكل واحدة من أهم الوجبات المغذية على موائدهم. ترتبط هذه الصناعة بعادات وطقوس تقليدية موروثة، ظلّت محافظة على أسلوبها وأدواتها القديمة دون تغيير يُذكر رغم مرور الزمن.
وتُصنع “الجبنة البلدية” بطرق تقليدية بسيطة، حيث تعلّم مربو الماشية منذ القدم هذه الطريقة وأورثوها لأبنائهم وأحفادهم. تبدأ عملية التحضير بِحلب الأغنام، ثم يُضاف إلى الحليب مادة طبيعية تُستخلص من بكتيريا ذات أصل حليبي تُعرف محلياً باسم “دورة الحليب”، والتي تساهم في تجميد الحليب وتحويله إلى جبن، ليُصبّ بعدها في أوانٍ خاصة مصممة لهذا الغرض.
وفي حديث خاص لـ “السوري”، أوضحت عائشة الأحمد، من ريف الرقة الشمالي، أن تحضير الجبنة يبدأ بحلب الماشية بمختلف أنواعها، سواء الأغنام أو الماعز أو الأبقار، مشيرة إلى أن الفترة الممتدة من أشهر الربيع وحتى أواخر الصيف تُعتبر الأنسب لصناعة الجبنة، حيث تكون المراعي وفيرة، وتنتج الماشية حليباً غنياً بالدسم.
وتضيف: “بعد عملية الحلب، نقوم بتصفية الحليب باستخدام قماشة خاصة لتنقيته من الشوائب. ثم نضع الحليب على النار لتفويره، ونتركه ليبرد قليلاً. في هذه المرحلة نضيف مادة تسمى ‘دورة الحليب’، وهي التي تعمل على تحويل الحليب إلى جبن. نترك المزيج لمدة ساعتين تقريباً حتى يتجمد تدريجياً. بعد ذلك نستخدم قطعة قماش قطنية، تُعرف محلياً باسم ‘الشاش’، لتصفية الجبن الجامد ورصّه جيداً”.
وتتابع الأحمد: “يُرَصّ الجبن بعناية ولمدة ساعتين أو ثلاث حتى يتم التخلص الكامل من الماء. ثم نبدأ بتقطيع الأقراص بعد إزالة القماش عنها، وتقطيعها إلى قطع صغيرة. بعد ذلك نُملح القطع جيداً تمهيداً لحفظها. نضعها في أوانٍ خاصة ونُحكم إغلاقها. غالباً ما نضيف حبة البركة إلى الجبن قبل التخزين، ونتركه حتى فصل الشتاء، ليُقدم على موائدنا كأحد أطباق المؤونة الأساسية”.
وتوضح هذه العملية لا تقتصر على إنتاج الجبن فقط، بل تشمل أيضاً الاستفادة من المواد الثانوية الناتجة عنها، حيث يُعاد استخدام ماء الجبن (السائل الناتج عن التصفية) لصناعة “القريشة”، وهي مادة غذائية خفيفة تُقدم مباشرة على مائدة الإفطار بعد إعادة تفوير الماء.
وتقول في هذا السياق: “نغلي ماء الجبن مرة أخرى لاستخراج القريشة، وهي مادة محبوبة بين أهالي الريف، وغالباً ما نوزعها على الجيران والأقارب، ضمن طقس اجتماعي يحمل روح التكافل والتعاون الذي يميز مجتمعنا الريفي”.
وتلفت الأم عائشة إلى أن “صنعة الجبن البلدي” تُعدّ من التقاليد المتوارثة في بيتهم، حيث ورثتها عن والدتها، وتنوي بدورها أن تنقلها لبناتها. وتؤكد على أهمية الحفاظ على هذه الطريقة التقليدية في التحضير، نظراً لما توفره من اكتفاء ذاتي للأسرة، وتقليل في المصاريف، خاصة خلال فصل الشتاء، الذي يشهد ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية.
وتضيف: “الجبنة من الأكلات الغنية والدسمة، وتُسهم في تغذية الجسم بشكل كامل. لقد كانت في الماضي الغذاء الرئيسي للريفيين ومربي الماشية في مناطقنا، إلى جانب الزبدة الطازجة والسمن العربي واللبن ومشتقات الألبان الأخرى”.
وتختم بالقول: “كنا نعيش على منتجات طبيعية بالكامل، بعيدة عن المواد الصناعية الضارة التي انتشرت اليوم في الأسواق، والتي تسببت بأمراض عديدة. لذلك فإن الحفاظ على هذه العادات الغذائية القديمة هو أيضاً نوع من حماية صحتنا وصحة أولادنا”.
بهذه التفاصيل والطقوس الدقيقة، تظل صناعة الجبنة البلدية أكثر من مجرد نشاط منزلي في الريف السوري؛ إنها تعبير عن تراث غذائي وثقافي لا يزال يحتفظ بمكانته في وجدان الناس، ويوفر لهم غذاءً صحياً وآمناً وسط عالم متغير يزداد ابتعاداً عن الطبيعة يوماً بعد آخر.