لكل السوريين

الظروف الاقتصادية تبطش بأصحاب المهن.. والأسباب تعلق على مشجب الأزمة

تحقيق/ سلاف العلي

بسبب الأزمة التي عصفت بسوريا خلال سنوات الحرب كادت بعض المهن اليدوية أن تنقرض، إلا أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السوريون حاليا ساهمت في كتابة الحياة لها من جديد وعادت إلى الواجهة، بل وازدهرت أكثر مما كانت عليه قبل عام 2011، لأن الناس لم تعد لهم القدرة الشرائية لاقتناء الجديد من المستلزمات لارتفاع سعرها وندرتها أحيانا.

الفساد يضرب جذوره واوراقه السامة في كل سورية، ودائما الحجج والاسباب تعلق على مشجب الازمة، ويمكن الإشارة الى بعض الاصوات التي بدأت ترتفع هنا وهناك عن استشراء الفساد والمحسوبيات والسرقات وخاصة في المناطق الساحلية، فهل ما تبقى من المهن الشريفة في طريقها الى الاختفاء والموت السريري.

من يراقب حال المواطنين السوريين باللاذقية، ومنذ سنوات، يجد أن من كان لديه مهنة او صنعة مقدرة ومحترمة وفيها دخل مريح، أصبح من الفقراء والمشردين، وتجوز عليه الصدقة والحسنة، ويقف في الطابور للحصول على سلة مساعدات، ومهجر من بيت إلى آخر، وتشرد أفراد أسرته في الداخل والخارج، ويستعمل أسلوب التقنين، في مأكله وملبسه، وودع الرفاهية التي كان يتمتع بها، وصرف جميع أرصدته المادية والعينية، ومع كل ذلك لا يزال يتمسك بأخلاقه ومعتقده، ويرفض الرذيلة في أي شكل كانت، ويحمل آلامه ومرضه ويقف في الشارع لبيع الخبز والعلكة، ويرفض الحاجة والعوز، ولا أحد ينتبه إليه أو يحترم أخلاقه.

وفي المقابل مع كل أزمة كانت تمر على السوريين، كانت تنمو فئة من المستفيدين والمنتفعين والمتاجرين بلقمة الشعب، فأصبح عامل التعبئة بالفرد في محطة الوقود من أصحاب رؤوس الأموال، ومعتمد الغاز لا أقل منه، وأصحاب المكاتب العقارية يصولون ويجولون ويزورون وينصبون بلا رقيب أو حسيب، ومن يتاجر بعفش المهجرين أصبح من الطبقة الأرستقراطية، ومنهم من انحدر إلى مهن منحطة أكثر، فزادت تجارة الممنوعات، من السلاح، والمخدرات، والتهريب، والغش، والسرقة، وأصبحت مغرياتهم تصل إلى الفئات الضعيفة، وتشكل خطرا على المجتمع ، ومن خلال النظر إلى الانحطاط أكثر، يكاد لا يمر يوم إلا وتسمع عن شبكة نصب، وتزوير، وقوادين، ومتاجرين بالنساء والجنس، مستغلين حاجة الناس ليركبوا السيارات الفارهة، ويتنقلوا بين المطاعم المرصعة بالنجوم، ويهمسون لأصحابهم، نحن نعمل تجارة، فهي بقناعتهم شريفة لأنهم يتبعون أسلوب الترغيب وليس الترهيب، فهي تجارة بزنس الأغنياء.

لا يمكن القول بأن التسول مهنة جديدة، وهي في أوج ازدهارها، يمكن لحظ المتسولين على الإشارات المرورية في الشوارع الرئيسية باللاذقية.

ورحلة في شوارع اللاذقية تكفي للتعرف على عشرات النباشين والنباشات الذين يتنافسون على مكبات القمامة، ليجمعوا ما تيسر لهم من كراتين وحديد وبلاستيك ومواد منظفات وغيرها.

وفي ظل أزمة الكهرباء، وساعات التقنين التي وصلت حدود 20 ساعة يوميا من الانقطاع، لجأ الأهالي في عدة مناطق في اللاذقية إلى نظام الأمبيرات كحل إسعافي وبديل، والأميرات يقصد بها نظام توليد الطاقة الكهربائية عن طريق مولدات تعمل على المحروقات وغالبا المازوت، ويرتفع سعر الأمبير بالتزامن مع أي زيادة لأسعار المشتقات النفطية، وعلى الرغم من أن الأمبيرات كانت ذات يوم تقع ضمن القدرة المادية للشريحة الأوسع من المواطنين في المناطق التي تعمل بها هذه المولدات، إلا أنها اليوم أصبح للطبقة الغنية فقط.

ثم سماسرة جوازات السفر، حيث أن استصدار الجواز صار ضربا من المستحيل في الكثير من الأحيان، فقد وصلت المدة المفترضة لانتظار استصدار الجواز أحيانا حتى عام 2025، مما خلق سوقا سوداء نشط فيه السماسرة القادرين على حجز أدوار سريعة للتقديم على الجواز عبر المنصة الالكترونية، هنالك ازدحام غير معقول على دور حجز جوازات السفر، ما أحدث ازمة غير مسبوقة يمكن وصفها بالأولى من نوعها في هذا الإطار والتي ما زالت مستمرة، فالمنصة الالكترونية فتحت باب التواطؤ والفساد عبر تحصيل مبالغ وصلت أحيانا لعدة ملايين من الشخص الراغب بالحصول على جواز سفره بأسرع وقت، فالتسجيل على المنصة صعب للغاية ولا يمكن الحصول على الجواز دون التسجيل على المنصة، ولهذا سرعان ما انتشر سماسرة المنصة ، وهؤلاء لهم دور في تقريب حجز موعد استصدار الجواز عبر طرقهم الخاصة ومقابل مبالغ مالية تكون كبيرة غالبا.

لم تكن شركات التأمين بهذا الازدهار قبل الازمة، ولكن شروط الازمة وظروفها أسهمت في تكاثر هذه الشركات وإقبال شرائح واسعة من المواطنين عليها، الناس تؤمن على كل ما تملك، وليس فقط ما يتعلق بالحرائق والزلازل، بل بتلك الأمور المتعلقة بالأزمة.

لكن ثمة مهن تنتعش، يمكن وصف تلك المهن بالحاجة اليومية للناس كمهن الإكساء والترميم والبناء والحلاقة الرجالية والنسائية والمهن المرتبطة بالسيارات: كهرباء – ميكانيك – بخ، وغيرها من المهن التي يستحيل الاستغناء عنها مهما اشتدت الظروف الاقتصادية، ويمكن أن نضيف إليهم بعض الحرف الإنتاجية كالمعادن والخزف والموبيليا والحلويات والخراطة والمشغولات الذهبية والفضية التي لها زبائنها الأوفياء، وكذلك الحرف التراثية التي يمكن تصديرها كالموزاييك والبروكار والصدف.

وعادت مهنة الإسكافي الذي يعنى بإصلاح الأحذية القديمة والبالية للازدهار، وشهدت نشاطا أخيرا في اللاذقية وريفها، بعد سنوات من الاندثار لجملة أسباب تتعلق بالحداثة والانفتاح وسهولة الاستيراد وكثافة الصناعة والارتخاء المادي المعيشي قبل الازمة.

الإسكافي انتعش عمله، بعدما وصل سعر الحذاء الجديد الى ما يعادل في أدناه غالبا مرتب الموظف الشهري، فكان إقبال المواطنين من جديد على أولئك الإسكافيين ما من شأنه إعادة إحياء المهنة التي اندثرت او كادت، ومعها أُعدم مورد دخل أصحابها الذين لا يتقنون غيرها صنعةً، إلى أن وجدوا أنفسهم من جديد على خريطة العمل بسبب أشخاص استغنوا مرغمين عن شراء الجديد وراحوا يصلحون ما لديهم لقاء مبالغ زهيدة.

وكانت أعمال إصلاح السجاد أو ما يعرف برتي السجاد أو تبييض الأدوات النحاسية تدور إلى حد كبير حول إصلاح السجاد اليدوي القديم جدا والمكلف، أو إعادة الحياة إلى بعض الأواني النحاسية التي تحمل إرثا تاريخيا معينا، وتلك الأشياء كانت تعتبر تراثا أو كنوزا فنية لقيمتها التاريخية.

وكان صانعو السجاد اليدوي يتفننون في تقديم أعمال متميزة، كما الفنانين التشكيليين الذين يرسمون لوحات فنية جميلة، وكانت تلك الأعمال تلفت الانتباه، ولكن مع مرور الوقت ونشوب الحرب باتت صناعة السجاد اليدوي نادرة، وبات صعبا على الناس شراء هذا النوع لغلاء ثمنه.

أن عمل الرتي قد يستغرق شهورا لإنهاء إصلاح التلف في السجاد اليدوي القديم اعتمادا على الحجم ومدى تعقيد العقد وكذلك مطابقة تركيبة اللون الصحيحة، فإن عدد النساجين البساطين قد ارتفع بعد أن انخفض بشكل كبير خلال الازمة، لأن الناس حاليا يقومون بإصلاح أي سجاد لأنهم لا يستطيعون شراء الجديد.

لم يكن يخلو حي وزقاق باللاذقية  من منجد فرش ولحف ووسائد، ولكن في السنوات الأخيرة انتشرت في أسواق اللاذقية تجارة بيع الفرشات والوسائد الاسفنجية والمضغوطة والمصنعة بشكل آلي وحديث، فعملت الكثير من الأسر الساحلية على اقتنائها والاستغناء عن تلك التقليدية المصنعة من صوف الأغنام والتي تحتاج للتنجيد والصيانة الدورية في كل سنة،  وانعكس هذا الوضع سلبا على المنجدين، حيث انخفض عددهم بشكل كبير، واتجهت مهنة التنجيد للانقراض، لكن عودة الناس لاقتناء الفرش واللحف والأغطية والوسائد الصوفية بدلا من الاسفنجية، حيث تضاعفت أسعار الأخيرة عدة مرات في السنتين الماضيتين بسبب أن المواد الأولية لصناعة الاسفنج تستورد من الخارج، والدفع سيكون بالعملة الصعبة.

ومهنة تصنيع الأراكيل ومستلزماتها، وهي الحرفة التي عادت للحياة بشكل واسع في اللاذقية، فمع استمرار الأحداث اضطر الكثير من أهالي الساحل وهم الذين كانوا يعشقون النزهات والرحلات الى الطبيعة والبحر، للبقاء في منازلهم أو الذهاب للمقاهي القريبة من سكنهم أو للحدائق العامة ومعهم أراكيلهم، فكان أن افتتحت عشرات المحلات التي تخصص أصحابها في بيع الأراكيل. ورغم ارتفاع أسعارها فهناك إقبال كبير على اقتنائها، ومع الإقبال على اقتناء الأراكيل انتشرت العديد من ورش تصنيع مستلزماتها في أسواق اللاذقية.

مهن أخرى نشطتها الأزمة وأعادتها للحياة ومنها الخياطة التقليدية، فمع ارتفاع أسعار الألبسة عمل الكثيرون على المحافظة على بدلاتهم وقمصانهم وبناطليهم من خلال صيانتها باستمرار لدى الخياطين لتدوم أطول فترة ممكنة، حيث انتشرت في الأشهر الأخيرة دكاكين جديدة في أسواق تقليدية باللاذقية يعمل أصحابها في هذا المجال بعد أن كانت مهنة الخياطة في طريقها للانقراض.

كذلك مهنة إصلاح بوابير الجاز عادت للحياة، حيث عادت العديد من الأسر الساحلية لاستخدام البابور بعد تقاعدها عن العمل في مطابخ قرى الساحل ، منذ أكثر من نصف قرن، ولكن مع الأزمة والأحداث والحرب ارتفعت أسعار المواقد التي تعمل على غاز البوتان، كما ارتفع سعر اسطوانات الغاز نحو خمسة أضعاف، فعاد اهل الساحل لمواقد الأجداد وأجروا الصيانة اللازمة لها أو اشتروا الجديد منها، ليعود حرفيوها الذين انقرضوا في السنوات الماضية لنشاطهم المعهود، ومنهم من أدخلها من جديد مع مهنة أخرى يعمل بها كصيانة الأدوات النحاسية المطبخية وغيرها.

كذلك، أن مهنة المبيض أو تبييض الأواني النحاسية كانت مهددة بالانقراض، إلا أن الظروف الاقتصادية الحالية التي يعيشها المواطنون ساهمت في إعادتها إلى الحياة، لأن النحاس أصبح باهض الثمن، وأغلب العائلات الساحلية تمتلك أواني نحاسية هي تراث من الأجداد، ويتم العمل على إصلاحه وتبييضه ليكون جاهز للاستخدام، وأن الكثير من العائلات عادت إلى استخدام الأواني النحاسية لعدم قدرتها على شراء الأواني الجديدة.