لكل السوريين

سوريا… تصاعد جرائم القتل وتحديات دمج الفصائل المسلحة وتحذيرات أمنية

رغم المساعي المتواصلة من الحكومة السورية الانتقالية لإعادة ضبط المشهد الأمني في البلاد، إلا أن الوضع لا يزال يتدهور بشكل مقلق في عدد من المحافظات، وسط تصاعد عمليات القتل والاغتيالات وغياب فعلي للرقابة على السلاح المنتشر خارج إطار مؤسسات الدولة، في وقت تستمر فيه فصائل مسلحة برفض الاندماج في بنية وزارة الدفاع، وتُنسب إليها عمليات انتقامية تُهدد المدنيين وتقوّض الأمن المجتمعي.

وفي ظل هذا الواقع، تحاول الحكومة الانتقالية فرض معادلة “جيش واحد وسلاح شرعي واحد”، كمدخل ضروري لإعادة بناء الدولة السورية بعد سنوات طويلة من الصراع والانقسام. لكن ومع انتهاء المهلة المحددة لدمج الفصائل المسلحة، تبقى فصائل عديدة خارج سلطة وزارة الدفاع، ما يزيد من تعقيد المشهد الأمني، خصوصاً في مناطق مثل حمص، حماة، اللاذقية، طرطوس، وريف دمشق، حيث تكررت الهجمات ذات الطابع الانتقامي والطائفي.

وزير الدفاع في الحكومة الانتقالية، مرهف أبو قصرة، كان قد أعلن منتصف أيار الماضي عن إطلاق المرحلة الأخيرة من جهود توحيد المؤسسات العسكرية، داعياً ما تبقى من المجموعات المسلحة الصغيرة إلى الالتحاق بوزارة الدفاع خلال مهلة عشرة أيام، ملوّحاً بإجراءات قانونية حاسمة في حال عدم الامتثال. ومع ذلك، لا تزال فصائل مسلحة عديدة ترفض الدخول ضمن البنية الرسمية، ما دفع بعض الجهات الأمنية إلى تنفيذ عمليات نوعية في محافظات مثل حلب ودير الزور، أسفرت عن تفكيك خلايا تابعة لتنظيم داعش.

ويرى خبراء عسكريون أن المهلة القصيرة لدمج الفصائل غير كافية عملياً، مقترحين فتح باب الانتسالوالوعتتاب الفردي وفق حوافز مغرية تشمل رواتب مرتفعة، مجانية المواصلات، اشتراكات في الأندية، ومعونات عائلية. إلا أن المشكلة تتجاوز البنية التنظيمية لتطال النسيج الاجتماعي الذي تهدده النزعات الطائفية والانقسامات المناطقية المتعمقة بفعل الحرب.

ويؤكد محللون أن استمرار الفصائل المسلحة في العمل خارج سلطة الحكومة، إلى جانب تصاعد الاغتيالات والجرائم ذات الطابع الطائفي، يهدد الاستقرار الهش الذي تحاول الحكومة الانتقالية ترسيخه، خاصة في ظل غياب مؤسسات رقابية فعّالة ونظام عدالة قادر على فرض المحاسبة.

تصاعد خطير في جرائم التصفية

وفي هذا الإطار، كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان عن تصاعد “ممنهج ومقلق” لجرائم القتل الفردي والتصفية في سوريا، والتي أسفرت عن مقتل 776 شخصاً منذ بداية عام 2025 وحتى منتصف حزيران الجاري. وبحسب المرصد، فإن هذه الجرائم تشمل إعدامات ميدانية واغتيالات مفاجئة نفذها مجهولون، واستهدفت بشكل خاص عناصر سابقة في الأجهزة الأمنية والعسكرية، فضلاً عن مدنيين، في سياقات حملت طابعاً انتقامياً، بعضها فردي، وأخرى اتخذت أبعاداً طائفية ومناطقية.

وفيما يلي توزع الضحايا حسب المحافظات:

حمص: 269 قتيلاً (بينهم 15 سيدة و3 أطفال) – 121 حالة ذات خلفية طائفية

حماة: 154 قتيلاً (بينهم 4 سيدات وطفلان) – 60 حالة طائفية

طرطوس: 65 قتيلاً (بينهم سيدة وطفل) – 42 حالة طائفية

اللاذقية: 80 قتيلاً (بينهم 4 سيدات و6 أطفال) – 40 حالة طائفية

ريف دمشق: 67 قتيلاً (بينهم سيدة) – 10 حالات طائفية

دمشق: 28 قتيلاً (بينهم سيدة) – 6 حالات طائفية

حلب: 51 قتيلاً – حالة واحدة طائفية

إدلب: 15 قتيلاً – دون تسجيل حالات طائفية

السويداء: 4 قتلى – حالتان طائفيتان

درعا: 37 قتيلاً (بينهم طفل)

دير الزور: 6 قتلى

وأشار المرصد إلى أن وتيرة العنف باتت شبه يومية في عدة محافظات، ما يعكس هشاشة الوضع الأمني، وغياب الدولة الرادعة، داعياً إلى محاسبة علنية للمتورطين، ومؤكداً أن غياب العدالة سيؤدي إلى مزيد من الفوضى والانهيار المجتمعي.

تفجير يطال كنيسة

وشهدت العاصمة السورية دمشق، مساء أمس الأحد، هجوماً إرهابياً استهدف كنيسة القديس مار إلياس في حي الدويلعة، ما أسفر عن سقوط عدد من الضحايا والمصابين، بحسب ما أفاد به مراسل صحيفة السوري.

‏ووفق مصدر أمني، فإن انتحارياً اقتحم الكنيسة أثناء وجود مصلين بداخلها، حيث أطلق النار عشوائيًا قبل أن يفجّر نفسه بواسطة سترة ناسفة، مما أدى إلى وقوع انفجار عنيف داخل الكنيسة.

‏وسارعت سيارات الإسعاف إلى نقل المصابين والضحايا من موقع التفجير، في حين انتشرت قوى الأمن الداخلي في محيط المنطقة لتأمينها ومنع حدوث تفجيرات أو اعتداءات أخرى.

وأعلنت وزارة الداخلية في الحكومة السورية الانتقالية أن الهجوم الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بالعاصمة دمشق نفذه أحد عناصر تنظيم داعش، مؤكدة استمرار التحقيقات لتحديد هوية المنفّذ وكشف ملابسات الجريمة.

‏وقالت الوزارة، في بيان رسمي، إن الهجوم الذي أسفر عن سقوط ضحايا بين قتيل وجريح، يأتي في سياق محاولات التنظيم المتكررة لضرب وحدة المجتمع السوري وبث الفتنة الطائفية، مشددة على أن دور العبادة “خط أحمر” و”لن نسمح بالمساس به”.

‏وأكد البيان أن الأجهزة الأمنية كانت قد أحبطت هجومين مماثلين في وقت سابق، وأن ما جرى في كنيسة مار إلياس يُعد الهجوم الثالث من نوعه، موضحاً أن التحقيقات الأولية تشير إلى أن المنفذ تصرف بمفرده.

‏وحذّرت الوزارة من أن التنظيم يسعى إلى زعزعة السلم الأهلي واستهداف الموقف الوطني للمكون المسيحي في البلاد، داعية وسائل الإعلام إلى توخّي المسؤولية الوطنية والإنسانية في تغطية الأحداث.

‏كما أشار البيان إلى أن القوات الأمنية، بدعم من الاستخبارات العامة، نفذت مؤخراً مداهمات استهدفت خلايا تابعة لداعش في دمشق وحلب، معتبرة أن التهديد الإرهابي له أبعاد فكرية واجتماعية واقتصادية، رغم طغيان الطابع الأمني عليه.

‏وأكدت الوزارة أن التنظيم يحاول مجدداً بث الفوضى في سوريا، مشيرة إلى أن فلول ما وصفته بـ”النظام البائد” تلتقي معه في الأهداف، مشددة على أن محاولات التنظيم لإحداث خرق أمني “ستفشل كما فشلت سابقاً”.

وضع أمني بالغ الخطورة

كشفت مجلة “دير شبيغل” الألمانية عن مضمون تقرير سري صادر عن وزارة الخارجية الألمانية، حذّر من أن سوريا لا تزال تشهد وضعاً أمنياً “بالغ الخطورة”، رغم سقوط نظام بشار الأسد أواخر العام الماضي.

‏وبحسب التقرير الذي يقع في 29 صفحة وصُنّف “سرياً”، فقد استند إلى معطيات جمعتها الخارجية الألمانية عبر السفارة الألمانية في دمشق ومنظمات دولية مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين واليونيسيف، إضافة إلى نشطاء حقوقيين وشركاء غربيين. وقد تم الانتهاء من إعداد التقرير في 30 أيار، وهو متداول حالياً في الأوساط الأمنية الألمانية.

‏يشير التقرير إلى أن الحكومة السورية الانتقالية برئاسة أحمد الشرع لم تنجح في فرض استقرار شامل، باستثناء مناطق محددة في دمشق ومحيطها وأجزاء من إدلب وحماة. كما أشار إلى استمرار نشاط الجماعات المسلحة بدرجة كبيرة من الاستقلالية، في وقت يواصل موالون للنظام السابق شنّ هجمات في مناطق الساحل وريف حمص الغربي، بحسب التقرير.

‏ووثق التقرير ارتكاب جماعات مسلحة مجازر بحق مئات المدنيين، غالبيتهم من الطائفة العلوية، في ردّ على هجمات شنها موالون للنظام المنهار في آذار الماضي.

‏كما سلط الضوء على استمرار الضربات الإسرائيلية والتهديد المتصاعد من التنظيمات المتشددة، إلى جانب تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدل الجرائم، بما في ذلك حوادث الخطف والقتل في المدن الكبرى. وقد بلغ عدد القتلى بين كانون الثاني وآذار نحو 4000 شخص، إضافة إلى مئات الضحايا بسبب الألغام، معظمهم من العائدين والنازحين.

‏رغم الصورة القاتمة، ذكر التقرير ببعض المؤشرات الإيجابية، من بينها الخطاب التصالحي لأحمد الشرع، وتنفيذ إصلاحات قضائية وإدارية، أبرزها إلغاء محكمة الإرهاب والعفو عن الفارين من الخدمة العسكرية، إضافة إلى وقف سياسات التجنيد الإجباري.

‏كما أشار إلى أن الإعلان الدستوري ينص على مبدأ فصل السلطات وحرية الصحافة والتعبير، لكنّه في الوقت ذاته شدد على أن هذه المبادئ ما تزال بحاجة لاختبار فعلي على أرض الواقع، في ظل استمرار الانتهاكات، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية وغياب استقلالية القضاء ووجود عقوبة الإعدام.

‏خلص التقرير إلى أن الظروف لا تزال غير مناسبة لعودة اللاجئين السوريين، رغم استئناف بعض الخدمات الرسمية كإصدار جوازات السفر. وأكدت منظمات الإغاثة الدولية أن عودة “آمنة وكريمة” غير متوفرة في الوقت الراهن.

تحذيرات أممية من تصعيد إقليمي

التحذيرات لم تقتصر على الجهات المحلية، بل وصلت إلى أروقة الأمم المتحدة، حيث عبّرت نائبة المبعوث الخاص للأمين العام إلى سوريا، نجاة رشدي، عن قلقها من مخاطر تصعيد وشيك في البلاد والمنطقة. وخلال إحاطة أمام مجلس الأمن، شددت رشدي على أن سوريا لا تحتمل موجة جديدة من عدم الاستقرار، مشيرة إلى التوترات بين إسرائيل وإيران، والتي قد تنعكس سلباً على المسار السياسي السوري.

وأكدت رشدي أن المبعوث الخاص إلى سوريا عقد لقاءات بناءة في دمشق، أعقبتها زيارة إلى لبنان، وناقش خلالها سبل دعم المرحلة الانتقالية، وتفعيل عمل اللجان المعنية بالعدالة الانتقالية، وقضية المفقودين. كما رحّبت بالمرسوم الرئاسي الذي شكّل لجنة عليا للانتخابات البرلمانية، معتبرة إياه خطوة نحو التغيير الدستوري.

تهديدات تطال الشرع

وفي مؤشر على خطورة المرحلة، أعرب المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، عن مخاوف بلاده من تعرض رئيس الحكومة الانتقالية أحمد الشرع لمحاولة اغتيال من قبل جماعات متشددة تعارض مشروعه الإصلاحي. وفي مقابلة مع موقع “المونيتور”، قال باراك إن الانفتاح الذي يقوده الشرع، إلى جانب توجهه نحو إعادة بناء الدولة والتقارب مع الغرب، جعله هدفاً للفصائل المتشددة، لا سيما التي تضم مقاتلين أجانب كانوا قد قاتلوا ضد النظام السابق.

وحذّر باراك من أن تأخر المجتمع الدولي في تقديم الدعم الاقتصادي لسوريا قد يؤدي إلى فراغ خطير تستغله الجماعات المتطرفة لتعطيل مسار التعافي، مشدداً على ضرورة تحرك سريع لتأمين الشرع ودعم الاستقرار.

وأشار إلى أن الرئيس الشرع يواجه أيضاً تحديات إقليمية، أبرزها التوسع الإسرائيلي داخل الأراضي السورية. ورغم تمسكه باتفاق وقف إطلاق النار لعام 1974، فإنه لمّح إلى إمكانية تطبيع العلاقات مع إسرائيل في حال توفرت الإرادة السياسية من الجانبين.

بلاد على صفيح ساخن

في ظل هذا المشهد، تبدو سوريا على مفترق طرق خطير. فعلى الصعيد الداخلي، تتفاقم المخاطر المرتبطة بفوضى السلاح وغياب سلطة الحكومة السورية الانتقالية، فيما تحاصر التحديات الأمنية والسياسية الحكومة الانتقالية من جميع الاتجاهات. أما إقليمياً، فإن أي انفجار محتمل بين إيران وإسرائيل قد يقود إلى تصعيد ميداني جديد داخل الأراضي السورية.

وبين التهديدات المتعددة والجهود السياسية التي لا تزال في طورها الأول، تبقى الحاجة ملحّة لإعادة بناء الدولة من خلال توحيد السلاح والمؤسسات، وترسيخ العدالة، وتوفير الحماية للمدنيين، وإطلاق مسار شامل للمصالحة الوطنية، قبل فوات الأوان.

- Advertisement -

- Advertisement -