دمشق/ مرجانة إسماعيل
تشهد بساتين الكرز في قرى ريف دمشق الغربي هذا العام انهياراً غير مسبوق في إنتاجها وعوائدها، ما يهدد بزوال هذا القطاع الزراعي التاريخي الذي كان يشكل مصدر رزق وفخر للأهالي لسنوات طويلة. مع اقتراب الصيف الحارق، يقف المزارعون أمام خسائر كبيرة جراء تراجع الإنتاج وانهيار الأسعار، وسط تحديات بيئية واقتصادية متفاقمة.
يروي أبو منذر من قرية عين التينة كيف تغير حال بستان الكرز الذي ورثه عن والده، قائلاً: “كنا نملأ أكثر من 50 صندوقاً خشبياً كل موسم، وكان التجار يتنافسون على شراء محصولنا قبل نضوجه. أما اليوم، فأكاد أجمع عشر صناديق فقط، ومعظمها من نوع رديء لا يصلح إلا للمربى”.
وفي بلدة بصور الحير، تشكو فاطمة من ارتفاع أسعار الكرز الذي بات خارج متناول معظم الناس، حيث يقول: “كنا نشتري الكيلو بألف ليرة قبل الحرب، واليوم أصبح بيعه بسبعين ألف ليرة أمراً عادياً، لكن من يشتريه؟ أولادي لم يعودوا يطلبونه لأن ثمنه يعادل وجبة طعام لأيام”.
تعود أسباب الأزمة إلى عوامل مركبة، أبرزها التغير المناخي القاسي، حيث شهدت المنطقة شتاءً دافئاً غير معتاد، لم تتجاوز فيه ساعات البرودة 300 ساعة، بينما تحتاج أشجار الكرز إلى 600 ساعة برودة على الأقل لتثمر جيداً. كما أدت موجة صقيع مفاجئة في آذار الماضي إلى تدمير نحو 70% من أزهار الكرز، حسب تقديرات المزارعين في قرية جيرود.
ويزيد من تفاقم الأزمة انخفاض منسوب المياه الجوفية بنسبة 60% خلال العقد الماضي، ما أثر على قدرة المزارعين على ري الأشجار، خاصة مع انقطاع الكهرباء وارتفاع أسعار المازوت، ما جعل مضخات المياه شبه متوقفة، وفقاً للمهندس الزراعي محمد الحلبي.
ولا يقتصر الأمر على الظروف الطبيعية فقط، إذ ارتفعت تكاليف الإنتاج بشكل هائل، فبلغ سعر كيس السماد الواحد 300 ألف ليرة بدلاً من خمسة آلاف سابقاً، وبلغ سعر المبيدات الحشرية نصف مليون ليرة للعبوة. يقول المزارع أحمد من قرية الحسينية: “لإنتاج كيلو واحد من الكرز ندفع اليوم ما يعادل عشرين ضعف ما كنا ندفعه قبل 2011.”
وسط هذه الظروف، لجأ بعض المزارعين إلى حلول مبتكرة، رغم محدوديتها، فأنشأت مجموعة من النساء في دير قديس تعاونية لتصنيع مربى الكرز، حيث تباع العبوة الصغيرة بـ15 ألف ليرة، ما يوفر دخلاً أفضل من بيع الثمار طازجة. كما حاول بعض أصحاب البساتين في الزبداني جذب الزوار لقطف الكرز بأنفسهم مقابل أجر، لكن الأوضاع الأمنية حالت دون نجاح الفكرة. وفي يبرود، بدأ مزارعون بزراعة أصناف أكثر تحملاً للجفاف مثل “الكرز الحامض” رغم ضعف قيمتها التسويقية.
امتدت تداعيات الأزمة إلى الحرف المرتبطة بزراعة الكرز، حيث اختفى معظم صنّاع صناديق الكرز الخشبية في قرية معربا، وأفلست العديد من تجار الفاكهة الموسميين. تغيرت أيضاً العادات الغذائية في الريف، فلم تعد مربى الكرز التي كانت من أساسيات البيوت الريفية تُقدم إلا عند الأغنياء، كما تقول الحاجة أميمة من قطنا: “حتى في رمضان، لم نعد نقدم قمر الدين بالكرز كما كنا نفعل”.
وحسب رئيس بلدية إحدى القرى، الذي طلب عدم ذكر اسمه، فإن “30% من عائلات المزارعين هجرت قراها خلال السنوات الثلاث الأخيرة بسبب انهيار الزراعة”.
رغم هذا الواقع القاسي، يتمسك بعض المزارعين بالأمل. في عين الفيجة، يحافظ أبو أنس على 15 شجرة كرز نادرة تعود إلى أيام جده، قائلاً: “هذه الأشجار هي ذاكرتنا، لو ماتت ستموت معها جزء من تاريخنا.” أما الشاب معتز من الديماس، الذي استقدم تقنيات ري بالتنقيط تعمل بالطاقة الشمسية، فيقول: “النتائج مشجعة، لكننا بحاجة إلى دعم حقيقي.”
تبقى معاناة مزارعي الكرز في ريف دمشق جزءاً من مأساة أوسع يعيشها الريف السوري، حيث تتداخل التحديات المناخية والاقتصادية والسياسية لتشكل تهديداً حقيقياً لمستقبل الزراعة التقليدية.