لكل السوريين

الظروف الاقتصادية تستحدث مهنة جديدة.. “استئجار الصدور” يظهر في حماة

تقرير/ جمانة الخالد

دأبت فاطمة، وهي أم لطفلتين، الأولى في عامها الثالث والثانية لها من العمر خمسة أشهر، على اصطحاب الأخيرة إلى جارتها بضع مرات في اليوم، وتدفع مقابل ذلك مبلغا من المال.

لا يعتبر ما تقوم به أمراً نادراً، فهذه الظاهرة انتشرت حديثاً بشكل متزايد على خلفية أزمات انقطاع الحليب المتكررة، والارتفاع المتواصل في أسعاره. وقد جرى رفع سعره أكثر من الضعف

تظهر ظاهرة استئجار المرضعة في حماة وحمص ومناطق سورية أخرى كشاهدة مؤلمة على التحولات التي مرّ بها المجتمع المنكوب. وتترجم هذه الظاهرة واقعا صعبا يعكس الفقر وسوء التغذية، وتأثيرها يمتد بعمق ويلامس حياة الأطفال والأمهات على حدّ سواء، فعندما تمتزج مشاهد الحياة اليومية بلونَيها الساحر والمحزن، تظهر في الأفق صورة مؤلمة تكشف عن تحديات اجتماعية جديدة تتجلى في وجوه المواطنين. بسوريا، البلد الذي عُرف بتاريخه العريق وثقافته الغنية.

استئجار المرضعة ليس مجرد مصطلح، بل هو واقع يعيشه العديد من الأُسر السورية المنهكة. ففي محاولة يائسة للتغلب على التحديات المعيشية القاسية، يجد البعض أنفسهم مضطرين للبحث عن حلّ غير تقليدي لمشاكلهم. وهذه الظاهرة تترجم عجز العديد من الأمهات عن تقديم الرعاية اللازمة لأطفالهنّ بسبب سوء التغذية وارتفاع أسعار الأطعمة والمستلزمات الأساسية.

عندما يضطر الوالدان للبحث عن مرضعة من بلدة إلى بلدة، يتكشّف الجانب المظلم للحياة، حيث تتحول الأمومة إلى معركة يومية من أجل البقاء. فالأمهات الضعيفات والمهمّشات يجدن أنفسهنّ في دائرة مفرغة من الدعم الحكومي، حيث يبدو أن همومهن لا تلقى اهتماما كافيا.

لم تكن القرارات الأخيرة برفع الرواتب مئة بالمئة مُرضية للجميع، ففي ظل هذه الظروف الصعبة، تواجه النساء  تحديات كبيرة في تربية أطفالهن، خاصة فيما يتعلق بالرضاعة الطبيعية، التي تُعد مصدرا مهما للغذاء والحماية والترابط بين الأم والطفل.

وفقا للمنظمة العالمية للصحة، فإن الرضاعة الطبيعية تقدم للطفل الرضيع فوائد صحية ونفسية واجتماعية عديدة، مثل تقوية المناعة والوقاية من الأمراض والحد من مخاطر سوء التغذية والوفيات. كما تساهم الرضاعة الطبيعية في تحسين صحة الأم، من خلال تقليل خطر الإصابة بسرطان الثدي والمبيض والنزف بعد الولادة. بالإضافة إلى ذلك، تعزز الرضاعة الطبيعية من رابطة الحب والثقة بين الأم والطفل، وتسهّل على الأم التكيف مع دورها الجديد.

لكن في سوريا، تواجه الكثير من الأمهات صعوبات في إرضاع أطفالهن طبيعيا، بسبب عوامل مختلفة، مثل سوء التغذية والإجهاد والخوف والضغوط النفسية التي تؤثر على إنتاج حليبهن.

كما أن بعض الأمهات يفقدن حياتهن أو يُصبنّ بإصابات خطيرة أو يضطرون للفرار أو التخلي عن أطفالهن بسبب ظروف الحرب والاعتقال. وفي هذه الحالات، يحتاج الأطفال إلى رضاعة بديلة، سواء كانت صناعية أو طبيعية.

مشكلة الرضاعة الصناعية هي أنها تكون غير متوفرة أو غير ميسورة بسبب نقص الحليب وارتفاع أسعاره، أو غير آمنة في كثير من المناطق، خصوصا في ظل نقص الماء النظيف والكهرباء وغيرها من المستلزمات.

لذلك، يلجأ بعض الأهالي إلى حل آخر، وهو استئجار مرضعة، أي امرأة أخرى تقوم بإرضاع طفل آخر بحليبها. وليس ذلك فحسب؛ بل إن البحث يتطلب في بعض الأحيان الانتقال من بلدة إلى بلدة من أجل الظفر بمرضعة قادرة على إرضاع الطفل خصوصا أولى أيام ولادته.

في أرجاء البلاد السورية، هناك صورة مؤلمة تشهد على تحديات مأساوية يواجهها الأطفال والأمهات على حد سواء. وتعكس ظاهرة استئجار المرضعات واقعا صادما يجسد حجم الصراع الذي تخوضه العائلات السورية الضعيفة التي باتت بين خيارين، سوء التغذية وارتفاع أسعار حليب الأطفال.

وتبلغ تكلفة استئجار مرضعة ليس سهلا، فاليوم الواحد لسبع رضعات للطفل يكلف ما بين 100 إلى 150 ألف ليرة سورية، حيث تحتاج المرضعة ما يقارب 80 ألف يوميا تكلفة لإطعام نفسها من أجل الصمود أما طفلين أو أكثر وإعطائهم الحدة الأدنى مما يحتاجونه من الحليب.

في وقت يحتاج فيه الأطفال إلى التغذية الملائمة لتطوّرهم ونموّهم السليم، يتكبد الوالدان عبئا كبيرا من القلق والتوتر. فالأمهات في الوقت الحالي ضعيفات بسبب سوء التغذية ويجدن أنفسهنّ في مأزق لا مفرّ منه، حيث تصبح مهمة توفير الحليب اللازم لأطفالهن مهمة مستحيلة تفوق إمكانياتهن.

مع ارتفاع أسعار حليب الأطفال إلى مستويات لا ترحم، تتفاقم المشكلة وتتعقد الأمور. حيث يجد الآباء والأمهات أنفسهم في سباق مع الزمن لضمان حقوق أبنائهم في التغذية والرعاية. وبدلا من أن تكون الأمومة فترة من الفرح والحنان، تتحول إلى عبء إضافي يثقل كاهل الأمهات ويعرقل مسيرة نمو الأطفال.

معظم المحافظات السورية شهدت ارتفاعا في أسعار حليب الأطفال بالتزامن مع نقص كبير ببعض أنواع الأدوية. فسعر حليب الأطفال ارتفع بشكل كبير، حيث ارتفع لأكثر من عشرون ألف ليرة سورية خلال أربع وعشرون ساعة، أي أكثر من خمسين بالمئة بالتزامن مع رفع حكومة دمشق أسعار الأدوية. وهذا السيناريو المأساوي يجعل بحث الأسر عن مرضعات ليس مجرد احتمال واقعي، بل يصبح ضرورة حياتية.

وفقا للمنظمة العالمية للصحة، فإن سوء التغذية يشير إلى النقص أو الزيادة أو عدم التوازن في مدخول الطاقة أو المغذيات لدى الشخص. ويشمل مصطلح سوء التغذية ثلاث مجموعات واسعة النطاق من الحالات: نقص التغذية، الذي يشمل الهزال كانخفاض الوزن بالنسبة للطول، والتقزم بانخفاض الطول بالنسبة للعمر، ونقص المغذيات أي نقص الفيتامينات والمعادن.

سوء التغذية لدى الأم يؤدي إلى تضرر النمو الجسدي والعقلي للأطفال، وزيادة خطر الإصابة بالأمراض المُعدية وغير المُعدية، وفي سوريا تواجه الكثير من الأمهات صعوبات في إرضاع أطفالهن طبيعيا، وعلى مستوى الحكومة، لا يوجد دعم كاف أو مناسب للأطفال أو الأمهات الذين يعانون من سوء التغذية.

الأطفال السوريون أصبحوا يحتاجون إلى ميزانية مستقلة لتأمين مستلزماتهم الضرورية. فراتب الموظف الحكومي ورغم رفعه مؤخرا لا يكفي لتلبية احتياجاتهم بشكل شامل، باستثناء مستلزمات الألبسة والغذاء التي تستهلك ميزانية كبيرة بالفعل، حيث تضاعفت الأسعار بما يقرب من 40 ضعفا.

لن يكون من الصحيح تجاهل مدى تأثير هذه الظاهرة الاجتماعية على المجتمع السوري. إنها تضع في الواجهة أزمة إنسانية تتجلى في معاناة الأطفال وعدم توفّر الرعاية الكاملة لهم. خصوصا أنه ليست هناك أولوية في جدول أعمال الجهات المسؤولة، وغالبية الأهالي يرون أن قرارات الحكومة هي السبب في عدم توفير بيئة ملائمة لنمو وتنمية الأطفال.