لكل السوريين

الفترة الثالثة لرئيس النظام التركي.. انقسامات عميقة وأزمات اقتصادية وسعي لإحياء الامبراطورية العثمانية البائدة

رغم فوزه بفارق ضئيل على منافسه كمال كليجدار أوغلو، إلّا أن قاعدة رئيس النظام التركي الشعبية تلاشت إلى حد كبير بعد أن حقق أدنى مستوى من الحشد الشعبي في جولة الانتخابات الرئاسية الأولى.

وأشارت استطلاعات الرأي إلى أن مشاكل تركيا ستبدأ منذ اليوم الأول لتولي أردوغان الفترة الرئاسية الثالثة والأخيرة من حكمه، حيث سيكون على رأس بلد يواجه العديد من الأزمات العميقة التي تسبب بها سياساته على الصعيد السياسي والاقتصادي خلال فترة حكمة الذي تجاوز العقدين من الزمن.

حيث تعاني تركيا من تضخم اقتصادي متصاعد، وتراجع مستمر في قيمة عملتها، وتدهور متسارع للاقتصاد التركي بدأ ينذر بالمزيد من الخطر.

وسيؤدي تعهد أردوغان بمواصلة سياسة خفض قيمة الفائدة إلى مضاعفة نسبة التضخم، إضافة إلى التداعيات الاقتصادية الكبيرة لزلزال شباط الذي دمر العديد من المناطق وحرم الكثيرين من ممتلكاتهم ومن مصادر دخلهم.

وعلى الصعيد السياسي دمرت عمليات التطهير التي قام بها أردوغان بعد الانقلاب الفاشل ضده الحياه السياسية التركية، حيث زج آلاف المعارضين في السجون، وهمّش دور الأحزاب، وقيّد حرية الإعلام الذي لا يدور بفلكه، وأصبح الانقسام القديم بين الأتراك العلمانيين والمتدينين أقل أهمية مع انتقال الناس من مختلف الأطياف السياسية، إلى أشكال متشددة من القومية خلال فترة الحملات الانتخابية، وما بين جولتي الانتخابات.

انقسامات عميقة

يواجه رئيس النظام التركي منذ بداية فترنه الثالثة في الحكم، مهمة صعبة تتمثّل بتوحيد بلاده التي شهدت انقسامات عميقة إثر فوزه بولاية جديدة في جولة إعادة هي الأولى في تاريخ تركيا.

ورغم قوة ائتلاف المعارضة والأزمة الاقتصادية الخانقة والغضب الشعبي الواسع النطاق بسبب تعامله مع زلزال شباط، تمكن أردوغان من هزيمة منافسه كمال كليجدار أوغلو في الدورة الثانية من الانتخابات.

ولكن الفارق الضئيل بينه وبين منافسه كان الأول من نوعه في أي انتخابات سابقة، ما يؤكد على الاستقطاب الحاد الذي سيواجهه في ولايته الرئاسية الثالثة.

ومع أن أردوغان حاول تبني نبرة تصالحية في خطابه بمناسبة الانتصار أمام أنصاره الذين احتشدوا خارج القصر الرئاسي في أنقرة، ودعا الأتراك “للاتحاد والتضامن”، إلّا أن خطابه تضمن إشارات إلى التفرد بالحكم، والعمل على إحياء الامبراطورية العثمانية البائدة.

بينما تعهّد كليجدار أوغلو بمواصلة الكفاح ضد أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي هيمن على المشهد السياسي التركي منذ العام 2002.

وقال أحد قادة المعارضة الأكاديمي بورا إييمايا “علمتنا الأجيال السابقة أن نكافح، لن نخسر أو نفقد الأمل في هذا البلد بسبب انتخابات واحدة، سنقاوم ونقاتل حتى النهاية”.

أزمات اقتصادية

انضمت تركيا إلى مجموعة الدول العشرين الأكثر ثراء في العالم، أثناء العقد الأول من حكم أردوغان، حيث عمل على تحديث البلاد بتشييد مطارات وطرق وجسور ومستشفيات وغيرها.

ولكن سياسته الاقتصادية الفاشلة بعد ذلك، وسيطرته على البنك المركزي وتحكّمه بسعر الفائدة، انعكس سلباً على الاقتصاد التركي، وساهم في انهيار الليرة التركية، وارتفاع نسبة التضخم إلى 85 بالمئة في شهر تشرين الأول من العم الماضي، وهو أعلى مستوى خلال ربع قرن.

ومع إعلان أردوغان فوزه في الانتخابات الرئاسية، تراجعت الليرة التركية بشكل كبير.

ويشير محللون إلى أن تعهّدات أردوغان خلال حملته الانتخابية بزيادة الإنفاق العام، وتمسكه بمعدلات الفائدة المنخفضة، ستزيد الضغوط على احتياطات البنوك من العملات الأجنبية، وتساهم في تدهور قيمة الليرة التركية وتراجعها مقابل الدولار.

ويرى خبراء في الاقتصاد أن “النموذج التركي الحالي غير قابل للاستدامة”، مشيرين إلى عشرات مليارات الدولارات التي ضخها المصرف المركزي لدعم الليرة التركية، ومحذرين من أن رفض أردوغان التراجع عن موقفه حول معدلات الفائدة “فقد يصبح الوضع أكثر سوءاً”.

وخاصة أن جهود إعادة البناء في جنوب شرق تركيا ما زالت في مراحلها الأولى بعد الزلزال الذي دمّر عدة مدن بأكملها، حيث فاقمت هذه الكارثة الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها تركيا بعد أن خسر مئات الآلاف مصادر رزقهم، حسب الخبراء الذين قدّروا كلفة الأضرار بأكثر من مئة مليار دولار.

رئيس مراوغ

أصبحت تركيا قوة إقليمية لا يستهان بها، واستأنفت في الفترة الأخيرة علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل والاتصال بالسعودية واقتربت من الإمارات العربية المتحدة، ولكن سياسة رئيس النظام التركي المراوغة، جعلتها دولة منبوذة من قبل العديد من دول العالم.

وتراجعت علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي بعد محاولة الانقلاب في 2016 وما تلاها من ميل استبدادي لرئيس النظام التركي، ووصلت المفاوضات بشأن انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي التي إلى طريق مسدود.

كما تراجعت علاقات رئيس النظام التركي الدولية بسبب موقفه المراوغ من المسألة الكردية،

حيث كان حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه يتمتع بشعبية بين الأكراد في العام 2002، عندما وصل أردوغان إلى السلطة، على خلفية سعيه للتوصل إلى اتفاق لإنهاء كفاحهم المسلح ومنحهم الحكم الذاتي.

ولكن تنكر أردوغان لوعوده أدى إلى استئناف النزاع المسلح عام 2015 بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني.

وأدرجت أنقرة وحلفاؤها الغربيون هذه المجموعة التي تخوض القتال منذ عام 1984 للحصول على حقوقها، على لائحة المنظمات الإرهابية.

اخبار سيئة الديمقراطية

لم يلقَ فوز رئيس النظام التركي ترحيباً في الصحف ووسائل الإعلام الأميركية الأخرى، ووصفته معظمها بـ”المستبد، والديماغوجي، والرجعي، واليميني المحافظ”.

وتحدثت هذه الوسائل عن “ظروف غير عادلة وسمت الانتخابات التركية ومخرجاتها”.

وذهبت بعض الصحف والمواقع الإخبارية الأميركية إلى استشراف مستقبل قاتم ينتظر البلاد تحت إدارته.

وفي مقالها الافتتاحي، وصفت هيئة تحرير صحيفة وول ستريت جورنال فوز أردوغان بـ”الأخبار السيئة للمستقبل الديمقراطي في البلاد”.

بينما عنونت صحيفة “واشنطن بوست” مقالها الرئيسي بعبارة “أردوغان يواصل خطابه التقسيمي بعد إعادة انتخابه”، مشيرة إلى نبرته الساخرة حيال منافسه كمال كليجدار أوغلو، حينما قال “وداعاً السيد كمال”، وتشديده على عدم الإفراج عن زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، صلاح الدين دميرتاش.

وقالت الصحيفة “من المستحيل توصيف الانتخابات على أنها نزيهة، بالنظر إلى الموارد غير المتناسبة الموجودة تحت تصرف أردوغان، واحتكاره وسائل الإعلام الحكومية، وسيطرته على مؤسسات الدولة، وتسخير النظام القضائي لإلقاء مرشحي المعارضة في السجن أو استبعادهم من المنافسة”.

واعتبر موقع إيه بي سي نيوز الأميركي” فوز أردوغان، وما سبقه من ابتعاد عن القيم الديمقراطية وسيادة القانون، سيبقي مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في حالة جمود، بعدما كان فوز المعارضة الديمقراطية، يعني أن على بروكسل أن تأخذ مفاوضات انضمام تركيا بجدية أكبر، بما في ذلك مراجعة الاتفاقات على الجمارك والتأشيرات”.

إمبراطورية الاتحاد الأوروبي تنهار

أشارت صحيفة التلغراف البريطانية إلى أن “فوز أردوغان على منافسه الذي يفضله الغرب، يؤكد أن أي ادعاءات قد تجول بخاطر الاتحاد الأوروبي بأنه لا يزال قوة عظمى لها مكانتها وتأثيرها في الشؤون العالمية تم الكشف عن عدم صحتها من خلال إعادة انتخاب أردوغان رئيساً لتركيا”.

ونشرت الصحيفة مقالاً للباحث السياسي البريطاني كون كوغلين، تحت عنوان “إمبراطورية الاتحاد الأوروبي تنهار”، أوضح خلاله أن بروكسل كانت تحاول إقناع تركيا لتصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي، ولا يزال ينظر إليها رسمياً على أنها مرشحة للانضمام، رغم أن أنقرة لم تحرز أي تقدم في تنفيذ الإصلاحات المؤسسية اللازمة منذ عام 2004.

وأشار الباحث السياسي البريطاني إلى أنه من المرجح أن يوسع أردوغان ميوله الاستبدادية على حساب المؤسسات الديمقراطية في البلاد، بعد إعادة انتخابه لولاية أخرى مدتها خمس سنوات، وهي “فترة تمثل تحدياً للاتحاد الأوروبي”.

وقال “إن هذا التحدي يدعو إلى التساؤل عن طموحات الاتحاد في وضع نفسه كقوة عظمى ذات قوة ناعمة مساوية في مكانتها للولايات المتحدة والصين”.

وخلص إلى أنه بالنظر إلى سجل الاتحاد الأوروبي السيء السابق في التعامل مع أردوغان، فإن بعض الأوروبيين لديهم ثقة في أن الكتلة يمكن أن تقنع أردوغان بالتخلي عن سياسته الاستبدادية لإقامة علاقات أوثق مع بروكسل.

من أتاتورك إلى أردوغان

بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى في 29 تشرين الأول 1923، أعلن مصطفى كمال أتاتورك قيام الجمهورية التركية الحديثة، وقادها حتي وفاته في 1938.

واستطاع أن يدرج العلمانية ضمن مبادئها التأسيسية مع إلغاء الخلافة ومؤسسات التعليم الديني.

وفي عام انتخابات عام 2002، انتصر حزب العدالة والتنمية المنبثق عن التيار الإسلامي على التيار العلماني الأتاتوركي، ولكنه أدخل البلاد في حقبة من عدم الاستقرار، وأثار قلق الدوائر المتمسكة بالعلمانية وخاصة الجيش الذي يعتبر نفسه حامياً للعلمانية.

وأصبح أردوغان أحد مؤسسي الحزب، رئيسا للوزراء في 2003، ثم رئيسًا للجمهورية في العام التالي حاملاً مشروعه الإسلامي المحافظ الذي يستحضر مجد سلاطين الماضي، ومحاولاً إحياء الإمبراطورية العثمانية البائدة.

وكانت تركيا قد شهدت انقلابات عسكرية في الأعوام 1960 و1971 و 1980، وأجبر الجيش التركي رئيس الوزراء الإسلامي نجم الدين أربكان على الاستقالة.

ولذلك أحكم أردوغان قبضته على الجيش، وألغى دوره السياسي فور توليه السلطة.

وفي 15 تموز 2016، وقعت محاولة انقلاب قادها عسكريون، وأسفرت عن مقتل 250 شخصاً وجرح 1500 آخرين، ونجا منها أردوغان واتهم الداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة بتدبيرها، وشن حملة تطهير غير مسبوقة اعتقل خلالها عشرات الآلاف من الجنود والقضاة والمثقفين والصحافيين والمعارضين الأكراد.

واستغل أردوغان محاولة الانقلاب للتنكيل بخصومه السياسيين والهيمنة على كافة مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والقضائية.

وفي العام التالي انتقلت تركيا من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي ألغى منصب رئيس الوزراء ووسّع صلاحيات رئيس الجمهورية بشكل كبير.

ومن المتوقع أن يستمر رئيس النظام التركي خلال ولايته الجديدة في تكريس نظامه الرئاسي، ونهجه العنصري، وقمعه للحريات ولوسائل الإعلام المناوئة لاستبداده، وسعيه الحثيث لإحياء الامبراطورية العثمانية البائدة.