لكل السوريين

في عامها الثاني عشر.. هل تتخلّص الثورة السورية من الأوهام والتسييس والعسكرة

بدأ الحراك الشعبي في سوريا بمطالب إصلاحية، وتصاعدت الاحتجاجات السلمية دون استجابة من النظام لأي من مطالبها، وبعد ردود الفعل العنيفة الني قام بها في تصدّيه للتظاهر السلمي، بدأ التحوّل من المطالب الإصلاحية إلى المطالبة بتغيير النظام.

وكان للنجاحات الأولى التي حققتها حركات الاحتجاج في بعض دول الربيع العربي دور إيجابي في استمرار احتجاجات السوريين وتصعيدها للوصول إلى غاياتها.

وبدأت الأحزاب والكوادر السياسية المعارضة تنخرط في الحراك الشعبي الذي تحوّل إلى ثورة.

في حين بدأ النظام بالترويج لمقولة حماية الأقليات في مواجهة التطرّف الإسلامي القادم، وطرح الجناح المتطرّف من الموالين شعار “الأسد أو نحرق البلد” في مواجهة شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”.

وبدأ قادة غربيون يؤكدون على ضرورة تنحّي الأسد كمدخل لأي حل سياسي، وبهذا الاتجاه ذهبت المبادرة الثانية لجامعة الدول العربية أوائل عام 2012، حيث طرحت تنازل الرئيس عن صلاحياته لنائبه ليقود مرحلة انتقالية، تنتهي بإصلاحات حقيقية.

ثم جاءت وثيقة جنيف التي أصبحت مرجعية الحل السياسي في سورية، وتبنّتها قرارات دولية، أهمها قرار مجلس الأمن رقم 2254.

ونصّت الوثيقة على تشكيل “هيئة حكم انتقالي”، من النظام والمعارضة والمجتمع المدني، بصلاحيات تنفيذية كاملة، تقود مرحلة انتقالية تنتهي بحكم ديمقراطي.

واتفقت الجهات الدولية على أن تشكيل الهيئة بالتوافق يعني استثناء الشخصيات المرفوضة من الطرفين، ولكن التفسير الروسي لهذه النقطة كان مغايراً، حيث تمسّكت روسيا بحق الأسد في أن يكون جزءاً من المرحلة الانتقالية، وحقه في الترشح للرئاسة مستقبلاً.

ولم تتخذ الأطراف الدولية الداعمة للمعارضة موقفاً حاسماً من الموقف الروسي، بل نصح بعضها المعارضة بالمرونة والمشاركة في هذه المسارات.

مطالبات بالتغيير

قبل بداية الثورة السورية بدأت محاولات الحراك السياسي والفكري في سوريا، وتعددت المنابر والمنتديات الفكرية والسياسية وتفاعل السوريون مع هذه الأنشطة بشكل لافت، ولكن سرعان ما تم قمع هذه المنابر والمنتديات قبل أن تتمكّن من إيجاد تيار سياسي مؤثر في الشارع السوري. وفي 16 تشرين الأول عام 2005، وقّعت مجموعة قوى وأحزاب وشخصيات وطنية بياناً باسم ائتلاف “إعلان دمشق”، ضمّ ممثلين عن التجمع الوطني الديمقراطي ولجان إحياء المجتمع المدني، وتنظيمات سياسية كردية وشخصيات مستقلة.

وسعى الائتلاف للتحول إلى مؤسسة من خلال تشكيل مجلس وطني، وانتخاب أمانة عامة، وعقد اجتماعاً في أواخر عام 2007 بشكل سري في أحدى ضواحي دمشق حضره 132 عضواً تمت تسميتهم من الأطر التي يمثلونها، لكن الائتلاف تعرض لأزمة داخلية بسبب نتائج الانتخابات التي حصلت مما أدى إلى خروج حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي.

وبعد أقل من أسبوع على انعقاد الاجتماع تم اعتقال عدد من أعضاء الأمانة العامة للإعلان، ومن الكوادر المؤسسة له، وهجرة آخرين من قادته، مما ترك أثراً سلبياً على بنيته وتطوره.

ولكنه استمرّ في العمل بأشكال قريبة إلى السرية، وأنشأ مكتباً للإعلام أشرف على موقع “نداء سوريا”، وأحدث فروعاً في المحافظات، كما نشط سياسياً وإعلامياً في الخارج.

ولكن حملات القمع حرمت التجمع من نجاحات كانت متوقعة، وانعكست أزمة عدم نجاحه سلباً  على وحدة المعارضة قبل الثورة وخلالها.

تحوّل في مسار الثورة

التفت معظم قطاعات الشعب السوري ومكوناته حول الثورة منذ بدايتها، وتحوّل معظم الشباب إلى قيادات ميدانية قامت بتشكيل لجان التنسيق المحلية التي أسست لتشكيل الهيئة العامة للثورة،

وانضم العديد من الكوادر السياسية والحقوقية والثقافية المعارضة إلى الحراك الشعبي بمختلف المحافظات السورية.

ولكن الأحزاب والكتل السياسية عجزت عن تشكيل قيادة موّحدة أو منسجمة ومتفاهمة، لتوجيه مسار الحراك الشعبي، وتركت الأمور للمبادرات المحلية في كل منطقة.

وخلال أشهر الثورة الأولى، بدأ الإخوان المسلمون نشاطهم في الخارج بدعم من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تربطه علاقات قوية مع دول عربية وإقليمية، ثم قاموا بتفعيل وتوسيع حراكهم بالداخل السوري.

وبعد دخولهم، ودخول التنظيمات السلفية المتشددة مثل تنظيم القاعدة وغيره على مسار الثورة، حدثت نقطة تحوّل في مسارها.

حيث دخلت هذه المجموعات المتطرفة تحت عنوان نصرة الحق وأهله، ولقيت في البداية ترحيباً من الحاضنة الشعبية، ولكن سرعان ما بدأت الحقائق تتكشف حول أهداف قادة هذه المجموعات الذين اعتقدوا أن الفرصة قد سنحت لهم في الأراضي السورية، فبدأوا ببسط نفوذهم في مناطق عديدة، ونشر فكرهم السلفي وفرضه على الناس في بلد تميز أهله بالاعتدال في الفكر والدين، إلا في حالات نادرة في بعض المناطق.

وبدأ استقطاب الدول الفاعلة على الساحة السورية لهذه المنظمات وتسخيرها للعمل وفق مصلحة كل دولة، مما أحدث نقطة تحول في مسار الثورة، وبداية الصراع الدولي على المنطقة، لتطبيق أهداف مختلفة تتناقض مع طموحات السوريين، وعلى حساب تضحياتهم.

ثم شكّل ظهور داعش على الساحة السورية ضربة قاسية للثورة، حيث شتت قواها ووسع رقعة جبهاتها وزادها تعقيداً، وفتحت سيطرة التنظيم على رقعة جغرافية واسعة من سوريا وإقامة إمارة عليها، شهيّة بعض قادة الفصائل المعارضة والمجموعات المتطرفة لإقامة سلطتهم في أماكن تواجدهم.

تسييس العسكر وعسكرة السياسة

عملية تسييس العسكر وعسكرة السياسة ليست جديدة في سوريا، ويمكن القول إنها بدأت منذ الانقلاب الأول للجيش الذي قاده حسني الزعيم عام 1949.

ومنذ ذلك الوقت فشلت الأحزاب والشخصيات الوطنية والقوى السياسية في تحقيق ائتلاف تحكم من خلاله البلاد بشكل توافقي يوفر لها الاستقرار وقيادة البلاد إلى التقدم والتنمية.

ومنذ ذلك الوقت انغمست القيادات الحزبية في خدمة مصالحها الخاصة، واستبدلت لغة الحوار بالصراع على السلطة، وصار كل حزب يريد الاستئثار بها لنفسه، فخسرت هذه الأحزاب معظم جماهيرها وشرعية تمثيلها لهذه الجماهير.

ولم تكن قيادات الجيش بمعزل عما يجري على الساحة السياسية في البلاد، ولكن هزيمتها في حرب 1948 زادت الأمر سوءاً في ضوء السجال الطاحن حول مسؤولية الهزيمة، والاتهام المتبادل بين السياسيين والعسكريين بالتسبب فيها، فقام الجيش بالانقلاب على الحكومة ليصبح شريكاً في اللعبة السياسية، ثم لاعباً أساسيا في مختلف مراحل النظام السياسي السوري، حيث بدأت القيادات الحزبية بالتحالف مع ضباط الجيش، وصار لكل حزب ضباطه، فانقسم الضباط على أنفسهم نتيجة الولاء للسياسيين والأحزاب.

ثم أخذ الجيش زمام المبادرة في الحياة السياسية السورية، لتصبح عسكرة السياسة سمة عامة في سوريا، مع استثناءات قليلة في بعض المراحل.

بحيث يمكن القول إن حالة “التسييس والعسكرة” التي طغت على الثورة السورية، وحرفتها عن مشروعها الديمقراطي، وحاولت تحويلها باتجاهات أخرى، هي في أحد أوجهها، استمرار لحالة عسكرة الحياة السياسية المتجذّرة في تاريخ سوريا المعاصر، بما تعنيه من ارتباط إي تغيير سياسي بحالات من العنف غالباً ما تحسمها سلطة العسكر لصالحها.

رهان واهم

تحول رهان معظم مكونات المعارضة السياسية في وضع مفاتيح حل الأزمة السورية بيد القوى الخارجية، ورهانهم على حلفاء الثورة لتصحيح الاختلال في موازين القوى بين الثورة والنظام، إلى خيار سياسي واهم ساهم في تغييب إرادة المعارضة الذاتية، وأعاق سعيها لإحداث التغيير الفعلي في موازين القوى من خلال مراجعة نقدية يجب أن تقوم بها لإحداث تغيير في علاقاتها مع جمهورها، ومع القوى المؤثرة في توجهات الرأي العام الدولي.

فالتمييز بين قوى التطرف والاعتدال ضروري لاستعادة الطابع الوطني والسلمي للثورة، ولا يستقيم دون التحرر من خطاب أسلمة المجتمع، وتسييس الثورة.

حيث بقيت العديد من حركات الإسلام السياسي توظف خطابها المعتدل، لتمييز نفسها عن الفكر السلفي، وتؤكد على زعمها بلورة إسلامها الوطني الذي يشكل التدين الشعبي في سورية قاعدته العريضة، وصمام الأمان للحفاظ على الوطنية السورية، لكي تنال الموافقة والدعم الدوليين.

ولن تتم مواجهة هذه الخطاب المراوغ إلّا بالسعي لتوحيد الخطاب الوطني للمعارضة، من خلال وجود مركز سياسي قادر على إحداث تغيير بنيوي في مؤسساتها التي لم يعد سلوكها يواكب الواقع ويستجيب لتطلعات السوريين، على أن يتجاوز سعيها مجرّد تعديل أنظمتها الداخلية، إلى إعادة النظر بتكوينها التنظيمي ووظيفتها القيادية وخطابها السياسي.

ولا يتم ذلك دون اتخاذ خطوات جريئة لمراجعة جذرية لتجربتها من خلال مشاركة المثقفين والسياسيين والنشطاء الفاعلين من مختلف الاتجاهات، واستنباط الحلول الكفيلة بتحويلها إلى مركز القرار السياسي للشعب السوري يجسد الواقع الوطني العام، أو البحث عن مركز سياسي جديد يعيد ثقة السوريين بمرجعياتهم الوطنية، بدلاً من الدفاع عن وهم وضع مفاتيح حل الأزمة السورية بيد القوى الخارجية، والرهان على ما تبقى من اعتراف دولي بها، بينما يتراجع ما تبقى رصيدها بين السوريين.

آفاق الحل

مع حلول الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية، واستمرار تواتر التصريحات حول ضرورة الحل السياسي وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، لا تبدو أية نوايا لتطبيق ذلك على الساحة السورية، وخاصة من جانب النظام وحليفته روسيا، حيث لا يزال خطاب النظام يتمسك بنبرته العسكرية وحلوله الأمنية، ويحافظ في المسارات الخارجية من جنيف إلى أستانة وسوتشي، واللجنة الدستورية السورية، على خطاب مكافحة الإرهاب والحرب الكونية على سوريا، دون تقديم أية تنازلات تتعلق بمطالب السوريين.

وفي المقابل لم تصل أطراف المعارضة السورية إلى قواسم مشتركة بشأن مستقبل سوريا، وما زالت تعيش حالة من التشظي والانقسام، وارتهان قرارتها لأطراف إقليمية ودولية.

وفي ظل عدم اكتراث النظام بمآسي السوريين، وعدم مبالاة المجتمع الدولي بها، وحدوث أزمات أخرى في العالم مثل الحرب على أوكرانيا والصراع الأميركي الصيني المعلن وغير المعلن، جعلت من القضية السورية في آخر سلّم اهتماماته.

وفي ظل وهم حسم الأمور عن طريق الحل العسكري، والاستعصاء السياسي الذي تشهده البلاد،

لا يبدو أي حل للمأساة السورية التي دخلت عامها الثاني عشر، سوى بوقوف الشعب السوري بكل أطيافه ومعتقداته وميوله السياسية أمام حقيقة أنه لا حل لهذه ألّا بجلوس الجميع معاً للتفكير بطريقة جدية، للخروج من هذه الكارثة، والعمل على التخلص من إرث التنافس السلبي السوري خلال الفترة التي عاشها السوريون في كنف الحزب الواحد والسلطة المركزية، مما أوجد لديهم موروثاً نفسياً يتمثل في الولاء للفصيل والقائد والمنطقة قبل الولاء للوطن وللثورة التي يجب أن تتمخض عن حالة وطنية تلبي طموح الشعب السوري بالتحول الديمقراطي لبناء دولة لكل السوريين دون أي استثناء على أسس طائفية أو عرقية، وتمكّن السلطة المدنية من استعادة السيطرة على النخبة العسكرية وعدم تسيسيها، ووقف تقوقع أطراف المعارضة السورية في إطار عسكري أو فصائلي يؤدي إلى الوقوع مجدداً في فخ تسييس الثورة أو عسكرتها.