لكل السوريين

في ذكرى رحيله العُجيلي ..بيئة بدوية وفكر نيّر

في الخامس من شهر نيسان  من كل عام تصادف  ذكرى رحيل الأديب  الطبيب عبد السلام العجيلي، و من يتابع، وبإمعان شديد، ما تناوله الأديب الراحل خلال فترة عمره الذي قضاه مطالعاً نهماً، وناقداً حذقاً ومتمكناً، لكتب الأدب والتراث، ودراسة الطبّ في جامعة دمشق، بعد أن أنهى  تعليمه الثانوي في مدارس حلب، واهتمامه بالشأن العام، أضف إلى تسلّمه حقائب وزارية متعدّدة، وعضواً فعالاً في مجلس النواب، فضلاً عن مشاركته في جيش الإنقاذ مدافعاً عن قضية فلسطين الكبرى، يدرك تماماً مدى الدور الكبير الذي لعبه، ولا ننسى في هذا المقام دوره في كتابة المقال الأدبي، وتناوله بأسلوب منمّق مفهوم وسلس،  صار يألفه الصغير قبل الكبير، والسبب هو تمتّع الكاتب بحسّ مرهف، وأسلوب واضح، سلس ومفعم بالرغبة الجامحة نحو تحقيق الذات، وفي متابعة الآخر، وفي ما يخطّه قلمه من صور بيانية غاية في الروعة تلزم الطرف الآخر بالاستمرار والمتابعة، وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة، وكأنه يحاول الإقلاع بالمكان، ومصوراً إيّاه بريشة فنان، بدقّة تفوق الوصف.

فللعجيلي شخصية مهضومة وفق التعبير الدارج، ووجوده في مجلس، قبل حديثه، يشدُّ الانتباه إليه، وتتلمذه شاباً في مجلس آل العجيلي في الرَّقة على كبار السن من أقاربه وجيرانه أكسبه مرانَ نسجِ القصص والحكايات المعاشة والمتخيّلة.

فالأديب الراحل يُعَد علمٌ من أعلام سوريا المبدعين، ومن أبرزِ كتّاب القصّة القصيرة في الوطن العربي، وممن خاضوا تجارب عديدة ومتنوّعة في الحياة، سواءٌ في الجانب الأدبي أو الشخصي.

فالأسفار، والعلاقات الإنسانية، والعمل، والكتابة الأدبية، ومستجدات الحياة اليومية، وما يعتريها من أحداث ـ جميعها لها مكانةً خاصةً لدى الكاتب!

وعندما نغوص في أعماق ما كتبه العجيلي، فإنَّ معظم ما تناوله نابع من التراث أولاً، والبيئة الفراتية الغنية ثانياً، والتي أغنت ثقافته الفكرية، وأسهمت في إبداعاته، وفي غزارة إنتاجه وبالتالي، خرج بنتاج أدبي متنوّع يندر تناوله، وهذا هو مفتاح نجاحه وشهرته .. أضف إلى ذلك مطالعاته الدائمة في بطون أمهات الكتب في سنّي دراسته الأولى، ومتابعته لما يُكتب، وحفظه للشعر العربي القديم، وما يملكه من حسّ أدبي منذ اليفاعة أضفى جميع ذلك على عطائه الإبداعي وأغناه.

لقد كتب العجيلي الكثير من النتاج في الأدب الساخر، ولا سيما في سنّي ممارسته الأولى للكتابة، كانت تُثيره، أو تدفعه إلى هذه الكتابة المفارقات، والمتناقضات التي تبدو لعينه أو لفكره فيما حوله، من أحوالٍ وأمورٍ وأناس.

في ذلك العهد، في أوائل عهده بالإنتاج الأدبي، كان متفرغاً للضحك، فيشارك فيه ولا يهتمّ ما وراء المظاهر الضاحكة الخفيفة، من قضايا مؤسية، أو مؤلمة، ومع الزمن أصبحت نظرته إلى الأمور أكثر نفاذاً إلى حقائقها، التي قلّ أن تكون ضاحكة أو مسلية، فقلّ نتاجه الساخر، ولكن في السنين الأولى، أثناء دراسته في الثانوية وفي الجامعة، كتب أشياءً كثيرة، شعراً، ونثراً، بأمور ضاحكة، وساخرة ـ أخوانيات ـ لم يكن يهتمُّ بالنشر، ولم يُطلب منه آنذاك أن ينشر، لذلك لديه ركام من الكتابات الساخرة، لم يُنشر، ولا أظنه يُنشر .. لأنه في كثيرٍ من الأحيان يتعلّق بعلاقات أخوانية، تهمّ الآخرين، وقد يكون نشرها مسيئاً إذا لم يفهم القارئ الظروف التي كتبت وأبدعت فيها، ومع ذلك فإنّ فصول أبي البهاء، هي فصول ضاحكة، كتبها في عهدٍ متأخر، في زمنٍ متأخر، في الثمانينات، وليس فيها إساءة إلى أحد، ولكن أراد أن يُظهرَ فيها تناقضات المجتمع، ونسبت كثيراً من أحداث الفصول إلى شخصية ضاحكة، ساخرة، حقيقيةً هي أبو البهاء، الذي كان أحد معارفه، وأصدقائه، لقد توفي ـ يرحمه الله ـ .

فالأحداث التي رواها فيه، أحداث حقيقية، أراد منها هو الضحك فقط، بينما هو حمّلها مغازيَ اجتماعية، وأخلاقية.

في كثير من الأحيان تُثيره كثير من الأمور، وتدعوه أن يكتب في السخرية، ولكنَّ السوّاد غلب على ما حولنا في هذه الأيام، وفي هذه السنين، لذلك من غير اللائق أن يترك الجد إلى السخرية .

أما القصة، فهي نوع من تحويل كلامه العادي إلى فن أدبي، وهو حينما يلقي المحاضرة، تجدُ محاضراته كلّها عبارة عن مجموعة من القصص، أو الحكايات، تنتهي إلى الغاية التي يريدها، سواء كانت فلسفية، علمية، أو سياسية .. فهذه طريقته في الإبداع. طريقة الحكاية، حتى حينما كان يُنظم الشعر.

وإن علاقاته الشخصية مع الآخرين لا تعتمدُ على الصفة الأدبية. علاقة الصداقة بالناس، كانت تعتمدُ على دوافع إنسانية.

فقد يكون هناك أديبٌ كبير، وقد كان هناك أدباءَ كبار في أسمائهم، وفي منزلتهم، ولم يرتبط بصداقات معهم، بل أنه ارتبط، كما يؤكد في حوار له، مع أصدقاء من أصناف مختلفة مشاربهم، من متسكّعين، ومتشرّدين، وفقرّاء، وشذّاذ، لأن صفاتهم النفسية كانت قريبة إلى قلبه.

في غالب الأحوال كان شعره عبارة عن قصص قصيرة، مابين النجمة والقمر، وما بين النهر والشاعر، هذا اللون جُبل عليه نفسياً، وتحوّلت هذه الجِبلّةَ النفسيّة إلى شكلٍ أدبي.. وقد كتب الشعر في مطلع حياته، حينما كانت التجارب قليلة، والعلاقات الإنسانية محدودة، والأماني كذلك، وأحب الشعر، لا شعره هو فقط، وإنما الشعر بصورةٍ عامة، فهو من محبيه ومن حفّاظه، ولكن بعد أمدٍ طويل، حين كثرت التجارب، وأصبحت الأفكار غنية، وكان لا بد له من التعبير عن أمور كثيرةٍ لا يستوعبها الشعر، تحوّل إلى النثر، وكتب حسب واقع الحال، وحسب ما يحتاجه.

وكما يقول الكاتب الكبير، طيب الله ثراه ـ عبد السلام العجيلي ـ بعد أكثر من ثمانية عشر عاماً من الفراق، وأنا الذي سبق أن التقيت به في عيادته الخاصة، وفي بيته الحَجَري المكوّن من طابقين، وكنت في حينها ما زلت شاباً يافعاً أتعلم بذور الكتابة، وأفخر أنّني من مدينة الرقة، مولد المرقدين، مقام الصحابي الجليل عمار بن ياسر، وأويس القرني..

لما لا أليس، من روّاد العجيلي، ومحبّي فن الرواية والقَصص، وهو الذي عشق صنوف الكتابة والأدب، ناهيك عن الكتابة في مجال التاريخ والفلكلور ومجد الرّقة وتاريخها، وهو الذي من لم يعجز عمن غلبه كثيرون، من كتّاب سورية المجيدين، وهو من عرف أنّ للرّقة تاريخاً، وهو الذي زاده هوساً بناء مدينته، وعشقه هواءَها، وظلّ ينقل خطواته الواسعة بين مدينة الرّصافة والرّها، ومدينة تدمّر مع المرحوم الآثاري مصطفى الحسون فتناول مدينة الرقّة، وكتب عن مدينة السخنة، ولم يهجرها في تناوله لها.

كان العجيلي نبراس حقيقي لأبناء الرّقة. كان أهالي المدينة يفرحون لمجرد رؤيتهم له، أو لمجرد مشاهدة عابرة، أو يسمعون على أنه ها هو الآن في زيارته لمكتبة الخابور وصاحبها العاشق للكتاب ولمخطوطات العجيلي أحمد الخابور.

الخابور الذي أسّسس مكتبة عمرها تجاوز الخامسة والستين عاماً، وكان ينشط في قرارة نفسه عن كل ما هو جديد، ويهتم بكل ما هو مفيد، وكذلك كانت تصدمه الصدفة في الجلوس إلى جانب العجيلي حيث يفرح بحضوره، وتسود التهاني بصورة أسبوعية بجلسات مفتوحة وغنية، فهل نبخس حق أبا بشر المتحدّث الكبير الذي طالما نتشرف به، ويتشرف به أبناء الرّقة ومثقفيها.

أبا بشر الذي تعلّمنا منه الكلمة الطيبة، والأخلاق العالية، والقول الفصل، والحب الصادق، وروح الكاتب الهاوي التي لم تعرف يوماً روح المحترف.

فلم يبحث عن الاحتراف، رغم أحقيته به، والبحث عنه، ولم يلجأ يوماً إلى قيادة سيارته “البويك” بدوافع التفاخر، لا أبداً، فكان ينتقل أغلب وقته مفضلاً ذلك راجلاً باحثاً عن أماكن جديدة وأحداث عميقة تجرّه إلى تجارب أكثر اقبالاً من قبل العامّة. ففي إحدى سفراته، رحمه الله، وفي حكاية سبق أن سردها، قال:

كنتُ إلى جانب خمسة ركاب، وكانت معنا امرأة من أهل السخنة، وفوّرت السيارة، فأرادوا أن يطفئوا محركها “الحامي” الساخن فما كان على المرأة الريفية الوحيدة التي معهم، أن لجأت إلى سائق السيارة، فاستدرجته وقالت له وبدون خجل، إنّ خالتكم ستفعل فعلتها، وستنطلق من ثم كمدفع مكسيم الرشاش، فأرجو منكم أن تديروا ظهوركم وسيتحقق بلا شك حلمكم الضائع في الصحراء. في الحماد السورية، التي ليس فيها لا طير يطير ولا بشر يسير!. وبالفعل حققت ما عجز عنه الركاب الأربعة والسائق الذي لم يأخذ حذره وهو في هذه المتاهة.. وبالفعل تمكنت أن تشمّر خالتي عن فخذيها وتبارك لها السماء بمدرار غزير، ويستيقظ النائمون من حلمهم.

وقال العجيلي: إنّها إرادة الخالق. لم نفعل شيئاً، ولتَطرَبوا.. إنّها النساء. إنّها حلم سعادتكم التي لا قبلها ولا بعدها.

إلى رحمة الله أيها العجيلي الكبير، فقد قال يوماً: “إنّي أخذت من الدنيا الكثير .. كتبت وزرت وحضرت العديد من الاجتماعات، وترأست كعضواً في مجلس النواب، وصرت وزيراً، ولأكثر من مّرة، وكنت عاشقاً ومحبّاً للأدب، وكتبت في الكثير من المجلات الأدبية والثقافية، كـ “الدوحة” القطرية، و”الديار” البيروتية… وغيرها كثير”.

ويعتبرُ العجيلي كلّ ما يمارسه في الحياة، هو هواية، حتى عمله الطبّي، كان يُمارسه بروح الهاوي ليس بروح المحترف! . والأدب كذلك هواية، بالنسبة له، ويصرّ دوماً على أنّه هواية أكثر من غيره.

والهواية الثالثة الأسفار، حتى سلوكه اليومي، يسير به على طريق هواية، لا يعتبر أنَّ هناك شيئاً ملّزماً في الحياة إلزام مهنة، والحياة، نفسها، هواية كذلك.

أما الهواية الرابع الرياضة. وكان العجيلي، رحمه الله، يحبّ السير ليلاً ونهاراً، وقلّ ما استخدم السيارة، كما يستخدمها الآخرون، حتى إذا سافر إلى بلادٍ يجهلها، فهو يمشي فيها لا طلباً للرياضة، ولكن يجدُ جسمه بحاجة للسير والحركة.

 

عبد الكريم البليخ