لكل السوريين

امرأة و مرآة ونافذة

جلاء حمزاوي

المرأة.. المرآة

المرآة التي تشبه اللوحة البيضاء تتيح المشاهدة المباشرة، والحوار، ورؤية الذات بالاقتراب والابتعاد، واللوحة التي تكشف الذات بلا مزينات، أو زخرفات.. ويلعب قناع المرآة دور الحلم، والكشف عن خصائص المرايا وأنواعها وانعكاساتها على الذات والآخرين، كما تكشف الداخل بإيحاء الخارج، وتتيح للعمل جماليات التكثيف والاختزال والإقلاب حسب خصائص المرايا، وأحياناً جماليات القبح والتشوه كمختبر كاشف للواقع، وسابر للأعماق النفس.

المرأة.. النافذة

قناع النافذة في اللوحة، هو بعد تقني ينفتح على الإطار لإسقاط الضوء وإدخال الهواء والاتصال بالعالم.. قناع يتمثل فكرة الحرية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى التعبير وفق أسلوب المدرسة التجريدية عند الفنانة المرأة لنقل مشاعرها وأفكارها الغامضة أحياناً، وتثريها بعدد من الترميزات لتشكل مفتاحاً ومداخل للوحة.

في الوقت الذي يرجع الحداثيون نشأة اللوحة إلى ظهور اللوحة المسندية.. التي تُعرف باللوحة الزيتية أو الفن الصالوني، فإن الدلائل تشير إلى خلاف ذلك. فاللوحة قد دخلت البلاد العربية خلال النشاط الاستشراقي وما تلاه في الحقبة الاستعمارية مما أربك المصطلح، كما أربك التشكيل الاجتماعي وأجهزة المفاهيم والذاكرة، وتحديداً في تأريخ الفن والثقافة. ذلك أن الفن يمثل سلسلة من التحولات الشكلية والأسلوبية والتقنية التي تتصل بشرط بروزها، وتعبر عن حاجة التعبير الفنية بمكتسبات المعرفة والمشاهدة.

وقد سجل تاريخ الفن تطوراً مهماً على المنجز بما تمثل في فن الجدران والكهوف، والنحت والخزف والحفر والتزيين والرسم والتشجير والنقش الذي لا يزال ماثلاً في الحضارات القديمة، ومنها: البابلية، والسومرية، والفرعونية، والعربية النبطية، وفن الكهوف في أمريكا اللاتينية، والحفر الأفريقي، والرسم الصيني.

وبات من الواضح أن تيار الحداثة الذي اقترح إطار اللوحة ومربعها قد ثار على الشكل في مرحلة ما بعد الحداثة لمصلحة التعبير الحر. وبالقياس على التاريخ فإن اللوحة المسندية تمثل مرحلة من المراحل التقنية الشكلية التي تمثلها الفن التشكيلي في مختلف صنوفه النحتية والخزفية والطباعية، وأن المرحلة التعبيرية «البدائية»، أو «فن الحضارات القديمة» استمر لقرون تزيد كثيراً عن الحقبة التي عاشتها اللوحة المسندية التي لا تزال تعيش بوتقة الاختبار.

إن قراءة تاريخ الفن، والرسم كمنتج حضاري، يمكن أن يدلنا على الكيفية التي تم فيها التحول الوظيفي للفن بالانتقال من المناخ الأنثوي إلى المجال الذكوري.

وهي قراءة تسعى إلى رصد التحولات والشروط التي أنتجت اللوحة المسندية في الغرب النهضوي وتوصيفها. وهي، أيضاً، محاولة لفهم المناخ العام الذي أنتج غالبية الفنون الغربية بانقلاب المتخيل من التكيف مع البيئة إلى تطويعها مع التطور.

وبدا من الواضح أن اللوحة المسندية التي دخلت من خلال نافذتي الاستشراق والاستعمار قد أدت إلى قطع مع المفهوم السابق لمعنى الفن ووظائفه وتاريخه، وكان للاتصال القسري متمثلاً في الاستعمار، والاستشراق دور في إدخال اللوحة المسندية كتعبير حداثي يتماهى مع قيم الغالب الجمالية والتقنية.

وجاءت تعبيرات الفنانين العرب الأوائل مقلدة تماماً لموضوعات الاستشراق برسم المرأة البدوية بكيفية سياحية، والتعامل مع المرأة بوهم متخيل الإلهام. وفي كل الحالات كانت المرأة موضوع اللوحة ومادتها، غير أن التحولات التي جرت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، أدت إلى وعي مضاد للهيمنة والاستعمار ببروز قضايا التحرر والنهضة، والارتطام مع أسئلة النهضة والهوية، ومن بينها الهوية الحضارية ومكوناتها الثقافية والفنية، وكانت صورة المرأة هي الأكثر حضوراً ضمن متغيرات الصراع والاشتباك في كل أشكاله.

ونتذكر هنا المرأة الشرقية التي كانت الرائدة في اجتراح الحكايات التي دونتها «شهرزاد» وسيلة للانعتاق والحرية والدفاع عن الحياة وسلطة «شهريار» في حكايات «ألف ليلة وليلة».

كما كانت الرائدة في كونها الفنانة الأولى التي يقع على عاتقها حراسة التراث باستعارة مفرداته على الأواني والقماش والجدران، منطلقة في ذلك من وظيفة طقوسية تضفي على آنية المنزل تمائم ورموزاً لرد الشر والحسد والأرواح الشريرة.

لم تخرج المرأة وقتذاك من إطار اللوحة كموضوع، كما لم تخرج من ظلال اللوحة كملهمة، وبعد انخراطها في المشهد التشكيلي استعادت وعيها وذاكرتها لتدوين ألوانها وخطوطها على اللوحة المسندية كنافذة أو باب أو جدار شفاف، منسلة من داخل المربع وحبسه بالوقوف أمامه لمناجاته متشبعة بصدق حكايتها وذاكرتها البصرية وهمومها وهواجسها وأمنياتها. وكما انطلقت جدتها «الفنانة الأولى» من توظيف الأشكال والرموز لغايات حماية وجودها، فإن الفنانة المعاصرة لجأت إلى اللوحة كمنصة لرؤية العالم، واستطاعت المرأة أن تستعيد مكانة الحكاءة.. الفنانة ببناء نصها البصري المقاوم للإقصاء والقهر.