لكل السوريين

الماء وحياة الشعوب

كل الأبحاث الأركيولوجية والعلمية تدل على أن ألمجتمع البشري المستقر الأول نشأ في حوض ما بين النهرين أي ميزوبوتاميا منذ عشرات الآلاف من السنين، والسبب هو توفر الظروف المناسبة للحياة البشرية والإستقرار، ومن تلك الجغرافيا تم تدجين الحيوان وتطوير الزراعة والعلاقات البشرية وحضاراتها في ميزوبوتاميا العليا ثم السفلى ومنها انتشرت ثقافات الثورة النيوليتية (الزراعية) إلى كافة أصقاع الأرض شرقاً نحو الهند والصين وغرباً نحو مصر وحضارات الفراعنه ثم أوروبا، أي أن الحضارات التي نشأت وترعرعت في ميزوبوتاميا انتشرت واستبدلت مراكزها عبر التاريخ إلى يومنا هذا.

السبب الأساسي في هذا الوضع كانت المياه الجارية من سلاسل جبال طوروس وزاغروس ومحيطهما على شكل أنهار وروافد وجداول نابعة من تلك السلاسل تسير في السهول والصحاري المحيطة بها ومن أهمها الفرات ودجلة بدون شك. وكأن ذلك النظام الطبيعي القائم كان هبة من الله إلى البشرية أو جنة الله على الأرض، مما جعل تلك المناطق محط أطماع كل القوى التي أسست أنظمتها على نهب واغتصاب مقدرات الشعوب، وحدثت غزوات لا متناهية من جميع الأطراف من الغرب والشرق والشمال والجنوب على تلك الجغرافيا. ولكن رغم كل الغزوات والحروب التي دارت بقيت الطبيعة تغذي تلك المجتمعات التي تأسست على حواف الجبال والسهول بسخاء، وبقيت تلك المجتمعات تحترم الطبيعة وسكان تلك المناطق.

مع التطور الرأسمالي وتحكم البشر بالطبيعة ونهب الثروات بشكل جشع في سبيل الربح والكسب المادي دون مراعاة للعوامل الطبيعية التي كانت العامل الأول في ولا دة البشرية ونشأتها وحضاراتها زاد التطاول على الثروات الطبيعية بدون معايير أو ضوابط. مما أسفر عن خلل كبير في كثير من المواضع كظاهرة البيت الزجاجي وخرق طبقة الأوزون وإرتفاع درجة حرارة الأرض والجفاف. ولكن الضرر الذي ألحق بمهد الحضارات البشرية هي من نوع آخر لأنها مناطقية ويمكن الحيلولة دونها بوسائل وأساليب مختلفة من خلال ردع الدخلاء.

أول إعتداء على الطبيعة كان من طرف إسرائيل عام 1964 عندما قامت بتغيير مجرى نهر الأردن الطبيعي مما ألقى بتأثير بالغ الخطورة على البيئة المحيطة بالنهر والبحر الميت الذي فقد الرافد الرئيسي لتغذيته، ولا زالت كل المنطقة ومحيطها تعاني من تخريب الطبيعة وسلبيات ذلك العمل اللامسؤول. ثم تطاولت جميع القوى والدول القادرة على بناء السدود والقنوات على الأنهار والجداول النابعة من الجبال والهضاب المطرية بذريعة الري أو توليد الطاقة دون دراسات متعمقة لتأثيرها على الجوار مما دفع بقوى الهيمنة العالمية إلى قوننة مصادر المياه والأطراف المستفيدة منها ولكن بعض الدول لم توقع عليها ولم تلتزم بها لأهدافها الإستغلالية الخاصة. ثمة أمر آخر وهو عندما لا تكون صاحب الأرض والثروة لن يصعب عليك هدرها أو العبث بها.

سلسلة الجبال والهضاب المحيطة بحوض ميزوبوتاميا باتت تحت سيطرة دول قوموية دخيلة غير مهتمة بمصيرها ولا الأبعاد التاريخية لهذه الجبال وتأثيرها على البلدان المجاورة. فالشعوب الأصيلة التي قطنت تلك المناطق منذ الأزل تعرضت لكل أشكال الإبادة والقتل والتنكيل ومحاولات الصهر والتهجير إلى أن تحكمت في الجغرافيا والثروات والموارد المائية منها، وكان من السهل الحصول على قروض كبيرة من المؤسسات المالية الدولية التي تنظر إلى أرباحها المالية دون أية معايير إنسانية أو أخلاقية أخرى، فجرى تمويل سلسلة طويلة من السدود أقامتها الدولة التركية على نهري الفرات ودجلة وروافدهما مما أسفر عن غرق حواضر بشرية شهدت ميلاد الحضارات البشرية الأولى منذ عشرات آلاف السنين، مثلما قامت إيران ببناء سدود وتحويل مجاري الأنهار المنحدرة من تلك الجبال مما أسفر عن نضوب روافد كانت تغذي السهول المحيطة.

الدولة التركية والإيرانية التي تحكمت بتلك السلاسل الجبلية التي تنبع منها أنهار الحضارة التي غذت البشرية على مدى آلاف السنين، لم تكتفي بذلك بل جعلت منها وسيلة لتمرير سياساتها في التحكم بتلك البلدان أي كل من العراق وسوريا، وأي محاولة أو محادثة تجري مع تلك الدول تصطدم بشروط سياسية دافعة إلى الإستسلام والخنوع، بما في ذلك الإشتراك في سياساتها العدوانية للشعب الكردي وإبادته من التاريخ، لمعرفتهم الجيدة بأن هذا الشعب هو صاحب تلك الأرض والجبال والهضاب، وإذا استطاع الشعب الكردي التمكن من أرضه التاريخية كردستان لما أعطى الفرصة لرأسمالهم وشركاتهم للعبث بقدر الشعوب إلى درجة تجويعها وتعطيشها.

للأسباب المذكورة يجب على كل الشعوب والمكونات التي عاشت على العطاءات الطبيعية من سلاسل جبال وهضاب طوروس وزاغروس، والتي قطنت في سوريا والعراق أن تدافع عن مصادر رزقها ومياهها بالوقوف صفاً واحداً لكونها صاحبة تلك الجغرافيا على مدى التاريخ في وجه الدخلاء العابثين بأقدار الشعوب، قالشعب الكردي الذي لا زال يدافع عن تلك الجغرافيا هو صاحبها، ويتمسك بأخوة الشعوب والعيش المشترك.