لكل السوريين

عمّتي حصّة

فقدت عمّتي حصّة زوجها جابر، ابن الأربعة والثلاثين ربيعاً، وأُلقي على كاهلها تحمّل تبعات تربية أسرتها الفقيرة التي تتألف من ثلاثة أولاد ومثلهم من البنات، وكلهم صغار السنّ لا يتجاوز عمر جازية، البنت البكر، الرابعة عشرة عاماً، وكانوا فقيري الحال، ويقيمون في دار وحيدة آيلة للسقوط مبنية من اللُّبن الغشيم… وكانت تحاول والدتهم، جاهدةً، تأمين ما أمكن من احتياجات البيت لسد الحاجة والعوز والفاقة مما يعانون.

وفي أغلب الأحيان يضطرون للّجوء إلى الجيران، أو إلى أقاربهم القريبين من سكنهم، وهم ليسوا بأحسن منهم حالاً، إلى اقتراض رغيف الخبز، أو البهار الضروري لإضافته إلى الطعام، الذي دائماً ما يؤكل بدونه، ولطالما كان من البطاطا الرخيصة الثمن، والبندورة، مضافاً إليه قطع البصل اليابس مع الزيت وقليل من الملح!.

كانت عمّتي حصّة من بين أخواتها الثلاث اللاتي تزوجن وعشن متناثرات في قرى بعيدة عن بعضهن البعض بعد أن كان يجمعهن بيتٌ واحد مسقوف غرفه الثلاثة من الأعمدة الخشبية ونبات الزلّ، ومبنية حيطانها من اللّبن المكوّن من التراب والقشّ من مخلفات حصاد القمح الذي يتمّ خلطه مع بعضه البعض بعد اضافة كمية من الماء إليه ليتحوّل إلى طين، وهذا ما كان يتسابق عليه أغلب أهل القرى من أجل بناء غرفة سكنية تأويهم من حرارة الشمس المحرقة وبرد الشتاء القارس. وكان حال أهل العمّة حصّة ليس بأفضل مما كانت تعيشه مع زوجها وأولادها الذين نالوا نصيبهم من الفقر المدقع والحاجة التي يعانون، وكانت بالنسبة لهم الملاذ الوحيد الذي يمكن أن يخفّف من معاناتهم، وأخذت تواصل الليل بالنهار لجهة تأمين لقمة عيشهم في ظل ظروف ذليلة قاسية!

الحياة التي مرت بها طوال فترة زواجها من رجل غريب، وتحمّلها مرارة العيش استمرت سنوات، ولم يكن بالإمكان له أن يُقدم لها ما كانت تحلم به يوماً، وأقلّها مساعدتها في القضاء على مأساتها وفي تلبية احتياجاتها الضرورية، إلّا أنَّ الفقر الذي ابتليت به والوجع كان أكبر من قدرتها على تحمّل ذلك، ما دفع بها إلى التغلب على معاناتها بالعمل فلاحة في الأرض لدى أحد المزارعين مع بداية ارتباطها بزوجها، وقبل أن تفكر في الحمل، طلبت منه الطلاق في أكثر من مرة نتيجة المعاناة التي كانت تعيشها، وتحمّلت كل ذلك رأفة بوضعه الصحي، واحترامه لها وتقديره لجهودها في التخفيف من عبء الحياة، التي كانت تعيشها مقارنة بصديقاتها، أبناء جيلها اللاتي تزوجن في ما بعد، وكن يعشّنَ حياة آمنة ومستقرة، إلّا أن عثرة الحياة وقسوتها دفعت بها إلى تقبّل الواقع كما هو، ومضت السنوات  تجري مسرعة إلى أن حان موعد حملها الأول، وهذا ما يعني اصرارها على المضي في طريق البقاء على ذمّة زوجها الذي كانت توده وتجلّه على الرغم من العوز والفقر الذي يُعاني منه، واستمر زواجها منه إلى أن رضيت بالمقسوم.

كانت عمّتي حصّة امرأة صبورة، وتمسكها بزوجها العليل والفقير الحال رغم العوز الذي كان يعاني منه، واكتملت فرحتها بزوجها بعد أن ولدت ابنتها البكر، وهذا ما ألزمها بالبقاء إلى جانب زوجها والعيش معاً بتبادل وجهات النظر والحب الصادق الخلي من الغش، ومع مرور الأيام زادت محبتها لزوجها بعد أن أنجبت ابنتها الثانية فالثالثة، وبقية أبنائها الذكور..

بساطتها، وطيبة معشرها، وحسن إدارتها واهتمامها ببيتها، ورعايتها لأولادها كل هذا دفع بها إلى التشبّث بزوجها أكثر والبقاء معه، و تحسّن واقعهم المعاشي بمساعدة الناس الموسرين من أهل الخير، وخاصة من ذوي القربى الذين قدموا ما استطاعوا من خدمات جليلة لقاء انقاذهم مما هم فيه، واستطاعت بعد ذلك من بناء غرفة وحيدة ومطبخ متواضع بالجوار من أهل زوجها، لتتمكن من العيش فيها إلى جانب زوجها حياة مستقلة عن الآخرين. حياة تحس باحترامها لنفسها ولمستقبل أسرتها ومن أجل بنائها البناء الصحيح، وللتغلب على مكانتها وتجاوزها مشكلاتها .

ومع الأيام تمكنت عمّتي حصّة من أن يكون لها استقلاليتها المتفرّدة مع زوجها وأفراد اسرتها الذين تمكنت من تربيتهم التربية الحسنة، ووفّرت لهم العيش الرغيد بجهودها الفردية وبمساعدة بعض الأقارب، ما يعني تجاوز مأساتها والتغلب عليها.

أبناؤها الذكور الثلاثة أكبرهم حامد، وعمره لا يتجاوز السبع سنوات، وأصغرهم فارس ابن العامين ونيّف، والأخ الأوسط نايف الذي يُعاني من مرض مزمن لم يتجاوز بعد الخمس سنوات، وترك لهم والدهم، المزارع البسيط، عشرة دونمات من الأرض الزراعية، بالكاد تسد الرمق مما تنتجه من وارداتها، من قمح وذرة صفراء وبعض الخضروات، فضلاً عن امتلاكه عدداً من الأغنام يُستفاد من حليبها في إطعام أطفالهم الصغار، وما يزيد عن ذلك يُباع بثمن زهيد لشراء ما يحتاجون إليه من طحين ولوازم البيت الكثيرة.

وفي ليلة شتائية باردة، أُعلن عن نبأ وفاة والدهم الذي يعمل على فلاحة الأرض ويشرف على سقايتها. وانتشر خبر الوفاة كانتشار النار في الهشيم، وتلقى أهله ومعارفه وأقاربه في القرية التي يقيم فيها خبر الوفاة، كما عَلم به أصدقاؤه وأخوه الذي يقيم في المدينة، وهو الذي ترك القرية منذ فترة مبعدة على ضوء خلاف حصل بينه وبين أحد أقاربه قبل نحو ثلاثين عاماً.

وكانت الصدمة قوية بالنسبة لأخيه ولم يكن يتوقعها، ما أقعدته أرضاً، وأخذ يجهشُ بالبكاء بشدّة متأثراً عليه ولا سيما أنه الأخ البكر، وكان يتصف بمواصفات حميدة، وأهمّها الوفاء والكرم والطيبة. وبرغم الفقر الذي كان يعيشه وأسرته، كثيراً ما كان يحاول جادّاً كسر طوق العلاقة التي تربطه بأسرته، مع إلحاح زوجته في السفر بعيداً، والعمل في أي عمل كان لقاء سداد ما يترتب عليه من ديون مستحقة الدفع، إضافة إلى تأمين المبلغ الذي يمكن أن يساعد في معالجة نايف، الابن الثاني من مرضه.

إلحاح عمّتي حصّة لم يلقَ إذناً صاغية، ففضّل زوجها البقاء في أرضه والتشبّث بها، رغم الحاجة الملحّة إلى المال في مساعدتهم على تأمين مستقبل أطفالهم الصغار، وبناء غرفة ثانية مناسبة، ودفع الأقساط المدرسية لابنهم حامد، وبناتهم جازية وزاهرة وشمس اللاتي يستعددن لدخول المدرسة بعد توقف استمرّ سنوات، وبصورةٍ خاصة، جازية، التي توقفت عند سن تعليم معينة لم تستطع معه إكمال دراستها، ورغم صغر سنها  كانت تعمل بالأجرة عند أهالي القرية المكتفين مادّياً ممن بحوزتهم مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، و يحتاجون إلى أيد عاملة في فترة التحضير ما قبل الزراعة، وفي موسم حصاد القمح، وقطاف القطن بعد نضوجهما، وهذا ما يستدعي البحث عن أيدي عاملة رخيصة، لسد النقص التي تحتاج إليه المساحات الشاسعة لأمثال جازية وغيرها من البنات الصغيرات في سنّ اليفاع ما يدفع الأهالي الذين لا يكفهم دخلهم، سواء من الأراضي ذات الحيازات الصغيرة التي يملكونها، أو من تلك التي يقومون على استئجارها من أجل  سد الثغرة من العاملات الصغيرات الباحثات عن عمل، وهذا ما يدفعهن إلى التسرّب من الصفوف المدرسية الأولى، بأعداد كثيرة، والالتفات إلى العمل في الزراعة طوال فترة القيظ، واللحاق بالمدرسة بعد الانتهاء من الأعمال التي تقوم بها، وهذه الحالة كان لها بالغ الأثر على الفتيات الصغيرات السنّ وأهاليهن من ذوي العوز والفاقة.

وكانت جازية، تحاول إشغال وقتها في العمل بسبب الفقر المدقع الذي تعاني منه، ولا سيما أنها كبرى إخوتها، وتليها في الترتيب شقيقتها زاهرة وشمس، وكلتاهما تحاولان تجسيد الدور الذي تؤديه جازية بالبحث المستمر عن العمل الذي يشكل صورة مفرحة بالنسبة لها.. وإن كانت الأخوات الثلاث يضطررن إلى اللحاق به مع ساعات الصباح الأولى، ولا يعدن إلى البيت إلاّ مع غروب الشمس، في حين أن البنات الأخريات اللاتي في عمرهن يقضين جلَّ وقتهن في بيوتهن، ويقمن بأعمال خاصّة بهن بعيداً عن العمل الزراعي والجهد الذي يُبذل فيه، فضلاً عن التعب والإرهاق الذي أكثر ما يعانين منه، وهذا ما يؤكد التفاوت الطبقي بين أسرة وأخرى.

فالأسر الغنية تُبقي على بناتها داخل المنزل وتقوم على توفير كل ما يلزمهن من متطلباتهن الخاصة، بينما جازية وأمثالها يظل حظها مقتصراً اللجوء إلى العمل حتى تتمكن من مساعدة أهلها مادياً في معيشتهم، وما يفيض لديها تقوم بشراء ما تحتاج اليه من لوازم خاصّة بها.

وظلّت عمّتي حصّة، تقوم على رعي الأغنام، بمساعدة ابنها حامد طوال اليوم، وفي المساء يعود مع أمه إلى بيته، وتقوم أخواته البنات  بحلبها، ليصار إلى بيع ما يتوافر لديهم إلى الباعة أصحاب المحالّ التجارية في المدينة التي تبعد نحو ثلاثين كيلومتر عن القرية التي يقيمون فيها، حيث يتم إرسال اللبن وبعض قطع الجبن إليهم بواسطة باصات النقل الخاصة العاملة في القرية، وبعد أسبوع  يُصار إلى جمع غلّة ما سبق وأن أرسل ليتم بعده قبض ثمنه، وهو على الأغلب لا يتجاوز ألفين ليرة سورية، وهذا المبلغ الزهيد تقوم عمّتي حصّة بالعمل على تأمينه لدى حميها الذي يقيم في المدينة، وهو الذي يقوم بين فترة وأخرى بمساعدتهم، وبحسب إمكاناته المادية، فضلاً عن أنه يقوم بزيارتهم بين فترة وأخرى للاطمئنان عليهم.

عمّتي حصّة، وعلى الرغم من جبروتها، وهمّتها العالية، وخبرتها في الحياة فإنها تُصنّف من النساء القلائل اللاتي تواصل العمل ليل ـــ نهار لأجل خدمة أبنائها الصغار وبناتها، بعدما فقدت زوجها الفلاح البسيط، الذي لم يكن قادراً على إعانة أسرته وخدمتها بالشكل المناسب، وطالما عانى من إصابة في رأسه، وشكى منها باستمرار نتيجة تعرّضه لحادث سير مروّع وهو في عمر الورود!

وبعد مضيّ سنوات على وفاة زوجها، استطاعت، برغم مرضها المزمن، أن تُحافظ على أبنائها، وأن توفّر لهم العمل المناسب، وأن تصل بهم إلى الطريق الصحيح … فكانوا مثال في الأخلاق والاحترام.

كانت عمّتي حصّة مثال المرأة التي يُفاخَرُ بها بين نساء القرية، ولم تفكر يوماً في الزواج من أحد، رغم أنَّ الكثير من الرجال المعروفين، ومن ذوي الحظوة، حاولوا التودّد إليها بهدف الاقتران بها، إلّا أّنها رفضت، وفضلت على ذلك تربية أبنائها وبناتها الست والعيش معهم بود، واستمرت في تحمّل عبء أسرتها، وبنائها على أسس سليمة، البناء الذي يُرضي ضميرها، فعملت على تزويج ابنها حامد من ابنة عمّه نجود التي لم تلتحق بالمدرسة قبل تخرّجه في الجامعة بثلاثة أعوام، كما أنها قامت على تزويج بناتها الثلاث، وبقي ولداها فارس، ونايف الذي تجاوزه المرض، وشفي منه بصورةٍ نهائية، ولم تخلص هي الأخرى من حياة مريرة رافقتها وهي في ريعان شبابها، بعد وفاة زوجها، وهذا ما يعني أنها كانت بمثابة الأم والأخت والموجه لهما.

وبعد أن أطمأنت إليهما، وكل واحد منهما أخذ دوره في الحياة، وأضافت عدداً من الغرف الحديثة البناء إلى مسكنها، حيث تقيم، واستقر حال أبنائها بالعمل في أرضهم الزراعية، وفي ما تنتجه من خيراتها، ورضوا بما أجزل الله عليهم من عطاء، وأنهيت معها حياة عمّتي حصّة، فأدركها الأجل المحتوم بوفاتها، وهي على فراشها بعد مُكابدتها المرض سنوات، فكانت مثالاً يُحتذى في التضحية والبذل والعطاء.

 

عبد الكريم البليخ