لكل السوريين

القصاص في حوار مع “السوري”: “لا أتوقع أن يستفيد حزب الله من أحداث السويداء، وإصرار دمشق على النظام المركزي سيجر البلاد إلى مزيد من الخراب”

حاوره/ ميزر الشهاب  

استمرارا للحوار الذي أجرته صحيفة السوري مع فراس قصاص، رئيس حزب الحداثة والديمقراطية لسوريا، جاء الجزء الثاني من الحوار على الشكل التالي:

ـ العام الماضي أيضا كانت مطالبات بإدارة ذاتية في السويداء. هل يمكن اعتبار تلك المطالب بأنها استمدت من نجاحات إدارة شمال شرق البلاد؟

لم تكن مجمل الطبقة السياسية السورية ليس فقط من في جهة السلطة بل أيضاً تلك التي في جهة المعارضة، تعرف عمليا شيئا عن الادارة الذاتية الديمقراطية بوصفها مقاربة مجتمعية لقضية الدولة والمجتمع والسلطة، بل أزعم أنها لم تكن تعرف عنها الكثير حتى نظرياً.

لقد بقيت هذه المقاربة حبيسة الكتب الفلسفية والسياسية وقلة ليس في منطقتنا بل في العالم كله من أقتنع بإمكانية تطبيقها وبجدواها من ناحية عملية، إلا أن القوى الرائدة التي اتخذت من الأوجلانية سقفا فكريا ونظريا لها لاسيما وقد عرف عنها قدراتها التنظيمية الاستثنائية وتضحياتها الهائلة من أجل مشروعها ومبادئها.

وهذا ما دفعها إلى أن تستمر في تحديها وصراعها مع العصي والمعقد والأصعب الذي يسم واقع سوريا والمنطقة، فزجت بكل طاقتها في الحدث السوري لتبدأ تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شروط صعبة للغاية وفي ظل تحديات ومآزق متوالدة.

ولم تفقد مع ذلك زخمها وفاعليتها وإيمانها بمشروعها، ولست أزعم أنها أنجزت مهمتها وانتهت من بناء إدارة ذاتية تشاركية ديمقراطية ومجتمع ديمقراطي ناجع، إلا أنني أؤكد أنها تسير على الطريق الصحيح وتحمل معها المنطقة والمجتمع في عملية تحول ديمقراطي تشاركي يحقق آمال الناس وإراداتهم ومصالحهم وقد حققت بالفعل نجاحا كبيراً على صعد عديدة.

من أهم هذه الصعد هي محاربة الإرهاب والتطرف وتأسيس بيئة تنوير شاملة، ومنها ما يتعلق بأحداث مأسسة قانونية وتعليمية ورمزية لقيم العيش المشترك والاعتراف بالأخر الديني والاثني، ومهاجمة الطابع الذكوري القمعي للمجتمع في كل اتجاه وإعادة الاعتبار للمرأة مؤسساتيا وفقا لمتطلبات صيرورة تمكين المرأة وتفعيل دورها ومساواتها التامة مع الرجل. كل هذا شكل أمام العديد من المناطق السورية والسويداء في مقدمتها نموذجا حيا يمكن العمل وفقه لحل مشاكلها، وهذا ما أتصور أنه كان الباعث الأساس لمطالبة القوى الحية في السويداء في إدارة ذاتية ديمقراطية لمناطقها.

ـ الحكومة لا تزال تلعب على الوتر الطائفي باعتبار أن السويداء فيها الطائفة الدرزية. على ما يدل ذلك؟

لعل في طيات سؤالك ما يسلط الضوء على أهم الأدوات والديناميات التي وظفها النظام في عملية تكريس هيمنته ودوام تسلطه وتسيده للوضع السوري طوال خمسة عقود، اقصد بالطبع العامل الديني، إذ لم يرعوي في كل مراحل حكمه للبلاد سواء أيام الديكتاتور الأب أو الابن عن التحكم في تسيير الشأن الديني وفقا لمحددات رئيسية تتمثل بالحفاظ على قروسطية خطابه.

كما أن الاسلام بوصفه دين الغالبية على نحو الخصوص، بحيث يبقي على البعد الطائفي الحاصل فيه، ويستنفر تعارضات الطوائف الدينية ومن ثم يوظفها في السيطرة على ابنية الدولة التي تسمح له باستدامة تملكه للسلطة واستمرار ممارستها وحيازتها، لا سيما العسكرية والأمنية، وكل معني ومراقب للشأن السوري يعرف عن كثب و بشكل موثق وعياني كيف استغل النظام مذهب بيئته الاجتماعية العلوي من خلال إدخال الطائفة العلوية في شبكة بيروقراطية عسكرية وأمنية وتوريطها بتحويل الدفاع عن عمل أبنائها وحياتها ومصالحها إلى عملية دفاع عن النظام.

وقبل ذلك تعزيز ملامح المظلومية والتوجس لديها من الأخر الديني والمذهبي التي يعج بها المخيال الجماعي للعلويين، تعزيزها بدعم المظاهر الدينية والآثار الاجتماعية ذات الصلة لمذهب الأغلبية السني في المجتمع من أجل إبقاء الطائفة العلوية في حيزيات اجتماعية لا يمكن إلا أن تصطف فيه مع النظام.

في كل المراحل والصراعات والتحديات التي يمكن لها أن تواجه تسلطه واستبداده وهو ما حصل في الفعل منذ بداية الحدث السوري عام ٢٠١١ ولا يزال يحصل حتى الان، “وحتى أكون أكثر وضوحا” أقول أن النظام السوري وبدلا من أن يقوم بحملة تنوير وإصلاح ديني جذري للإسلام بحيث يهدم جدران الطوائف فيه، قام بترسيخ علوية العلوي من خلال ترسيخ تسنن السني.

الأمر الذي يفسر بوضوح ويجيب عن سؤال لماذا دعم النظام لمنابر الاسلام السني التقليدي ومشايخه وحركاته الاجتماعية في سوريا ولماذا بنى الاف المرافق الدينية، وأضعف كل الجسور المدنية والسياسية والفنية والتعليمية التي يمكنها أن تصل بين السوريين مختلفي الطوائف الدينية، فكل ذلك كان على الحقيقة وفي الواقع من أجل احكام سيطرته على مفاصل الحياة في البلاد ومن أجل أن يظل نظاما وحيدا لإنتاج المعنى السياسي والاقتصادي والرمزي فيها.

وما يؤدي اليه ويعنيه ذلك من تحقيق سطوة شاملة وكلية على حياة السوريين؛ بالعودة إلى سؤالك أقول تبعا لهذه التوطئة من الطبيعي بل من الحتمي بمكان أن يستغل النظام البعد الطائفي في السويداء واللعب عليه خدمة لتسلطه ولبقائه وهيمنته فهذا هو التحصيل الطبيعي لسياساته ومقارباته في البلد منذ وصوله إلى السلطة.

ولا يوجد أو لا يمكن ان يوجد اي جديد يسمح له أو يدفعه نحو عدم الاستمرار في هذه السياسات وعلى ذات العقلية والمنوال، فما يعقه عن ذلك بنيوي ولا يمكن أن يختفي إلا باختفاء النظام ورحيله.

ـ برأيك هل يمكن أن تستمر أزمة السويداء أم أن عصى دمشق ستكبحها كما كبحت درعا؟

لا أميل إلى القول بأن احتجاجات السويداء يمكن أن تستمر أو تثمر على النحو الذي يفسح للحدث السوري مساحات ونهايات جديدة أو مختلفة؛ عما تحصل أو أصبح قابلا للتحصيل، لكن ذلك لا يعني أبدا أن يتمكن النظام من القضاء على خصوصية الحالة في السويداء ولا أن يحصل في المدينة تطور مشابه لما حصل في درعا، فالحالتين مختلفتين تماما وقد سلكت كل من المنطقتين منذ عام ٢٠١١ مساراً مختلفا في مستوى الحدث السوري، وما تزال بتقديري عوامل استمرار هذا الافتراق متوفرة وفاعلة.

ـ لو عدنا قليلا للوراء لرأينا أن السويداء كانت ترفض دخول حزب الله اليها. هل سيستفيد الحزب اللبناني من الأحداث الأخيرة؟

استبعد أن يستفيد حزب الله من احتجاجات السويداء فائدة نوعية لجهة تمدد حالته إلى المدينة، فالعامل الإسرائيلي يصعب من ذلك ومخاطر حصول امتداد للأثر الناتج عن التعارض والنزاع بين حزب الله ودروز السويداء الذي قد تتسبب فيه محاولات الأول تحقيق مكاسب في المدينة.

ومن جهة أخرى فأن مخاطر امتداده إلى لبنان بتركيبته الطائفية المتفجرة، وبالتالي تطور نزاع شيعي درزي هناك لا تحتمله أوضاع الدولة التي تعاني انهياراً اقتصاديا شاملا، كل ذلك من وجهة نظري يحول ويعقد من تحقيق حزب الله لأي تقدم أو مكاسب على هذا الصعيد.

ـ ما يجري في شمال شرقي سوريا من محاولات لتأليب الأوضاع ضد الإدارة الذاتية. هل يمكن اعتبار محاولات دمشق وأنقرة بأنها امتعاض من نجاح التجربة الديمقراطية الذاتية شرق الفرات؟

لا اشك أبدا في أن النظام وأنقرة ليس فقط ممتعضان من نجاحات الإدارة في شمال وشمال شرق سوريا، بل مهجوسان حد الرعب من هذه النجاحات، لذلك لا يكفان كلاهما عن خلق المشاكل واستدعاء عوامل التخريب على اختلاف مصادرها التي يمكن تنجح في تعويق تجربة مناطق الادارة.

فخلافا للحصار الاقتصادي واستخدام سلاح قطع المياه لجأ كل من طرفه النظام السوري والنظام التركي إلى مخاطبة العوامل العنصرية واللعب بالأبعاد العشائرية بل وتواطأ كلاهما حتى مع داعش ودعموها بأشكال مباشرة وغير مباشرة كل ذلك من أجل أن يصيبا تجربة الإدارة في مقتل، لكن كل ذلك فشل فشلاً ذريعا، نتيجة تماسك قوى الإدارة وإخلاصها في الدفاع عن مشروعها ومبادئها.

ـ هل ترى أن الحكم المركزي سيواصل جر البلاد للازمة الحالية أم أنه سيرضخ للمطالب الشعبية؟

أوفقك الراي تماما، النظام المركزي المستبد سيظل يجر سوريا إلى مزيد من الوحل والخراب وتدمير حياة الإنسان فيها، لم يتعلم مما حصل منذ عام ٢٠١١ ولن يتعلم، أزمته بنائية وجوهرية وجذرية ولا يستطيع تجاوزها، لكنه وقياسا لمعطيات الوضع السوري ومقررات الشرعية الدولية ذات الصلة، فقد هيمنته على مستقبل سوريا القريب.

وعلى المدى المنظور سيتم بناء نظام سياسي جديد وفقا لقرار مجلس الامن ٢٢٥٤، سيتقوض بموجبه نظام الاسدية وحالته في سوريا، إلا إنه حتى ولو رحل هذا النظام سيظل اتباع نموذج حكم مركزي في بلادنا، أحد أهم الأسباب لغياب العدالة في توزيع السلطة والثروة في المجتمع.

وأحد أهم العوامل التي توفر القابلية لظهور استبداد جديد وحصول تغول في السلطة على أبنية الدولة وعلى عموم البلد ومناطقه، ولن تختفي التمايزات بين المركز والأطراف ولن يعرف التهميش والإقصاء في بلدنا نهاية واضحة. لذلك فإن أهم عامل وقائي يمنع من ظهور استبداد جديد في سوريا بعد رحيل الاسدية يكمن في تبني نظام لا مركزي ديمقراطي تعددي فيها؛ هذا هو أهم ضمان لمستقبل سوريا ومستقبل مكوناتها وابنائها. وهذا ما يجب أن نحرص على تضمينه في دستور سورية وفي النظام السياسي الجديد القادم.

ـ كلمة الخير توجهها عبر “السوري” وما هي أمنياتك في العام الحالي؟

ما أتمناه لسوريا ومكوناتها يتمثل بتحقيق عناوين الحداثة والديمقراطية والمجتمع البيئي التشاركي الذي يبتني على قيم التعدد والحياة المشتركة ويدير ذاته بذاته ويقدم ليس فقط لسوريا ومنطقة الشرق الأوسط نموذجا يحتذى بل للعالم كله. هذا ما يستحقه الإنسان السوري وما تستحقه سوريا وما يجب أن يكون ويحصل فيها.