لكل السوريين

باحث قانوني: اللامركزية تعزز مشاركة المجتمعات المحلية في صناعة القرار

حواره/ مجد محمد

أشار زياد الشمري إلى أن اللامركزية ليست انفصالاً، وإنما تتيح نقل جزء من السلطات والصلاحيات من المركز إلى وحدات إدارية محلية منتخبة، مما يعزز من مشاركة المجتمعات المحلية في صنع القرار، ويمهد لإرساء نظام ديمقراطي تعددي يعكس التنوع المجتمعي السوري.

إن اللامركزية هي نمط من أنماط التنظيم الإداري والسياسي، يقوم على توزيع السلطات والوظائف بين مستويات متعددة من الحكم (المركزي والمحلي أو الإقليمي)، بما يتيح مشاركة أوسع في اتخاذ القرار وتحقيق كفاءة أعلى في إدارة الشؤون العامة.

ويرى الكثيرون أن اللامركزية هي أفضل وأكثر نماذج الحل ملاءمة لسوريا المستقبل، لأنها تعكس طبيعة المجتمع السوري متعدد القوميات والثقافات والأديان والمذاهب، وستساهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي.

وانطلاقاً من هذه الأبعاد المتشابكة، أجرت صحيفتنا “السوري” حواراً مطولاً مع الباحث القانوني زياد الشمري، الحائز على درجة الماجستير في القانون الدستوري، ودار الحوار التالي:

الحديث عن اللامركزية بات واضحاً وجلياً وبكثرة في جميع الأوساط في سوريا، بشكل مبسط ما هي اللامركزية؟

يُعد مفهوم اللامركزية أحد المحاور الجوهرية في النقاشات المعاصرة حول أنماط الحوكمة الحديثة، كونه يجسد تحولاً هيكلياً في بنية الدولة من سلطة مركزية احتكارية إلى نظام أكثر مرونة وتشاركية. فاللامركزية ليست مجرد خيار إداري، بل تمثل رؤية سياسية وتنموية تسعى إلى إعادة توزيع السلطة والموارد والمسؤوليات بين المركز والأطراف، بما يتيح مشاركة أوسع للمجتمعات المحلية في صنع القرار، ويعزز من كفاءة الأداء الحكومي وعدالة التنمية. وتتجلى اللامركزية في عدة أبعاد رئيسية؛ فهي إدارية عندما يتعلق الأمر بتفويض السلطات التنفيذية، وهي سياسية حين تُمنح السلطات التشريعية والتنفيذية لمجالس محلية منتخبة، وهي مالية عندما تُتاح للإدارات المحلية صلاحية التحكم بالموارد والميزانيات، كما تعبر عن نفسها جغرافياً (اللامركزية الجغرافية) من خلال تنظيم الدولة على أساس أقاليم أو محافظات تتمتع بدرجات متفاوتة من الاستقلالية (إدارة ذاتية). وتتبلور ديمقراطياً حين تُبنى على مبدأ تقاسم السلطة وتعزيز المشاركة الشعبية، فهي ليست انفصالاً كما يُشاع عنها.

في خضم حديثنا عن اللامركزية، هل هي على أنواع أو ماذا؟

نعم، هناك اللامركزية الإدارية، ويقوم هذا النظام على أساس توزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة المركزية في العاصمة وبين أشخاص الإدارة المحلية في الأقاليم، ويتمتع هؤلاء الأشخاص بالشخصية المعنوية المستقلة، مع خضوعهم لرقابة الحكومة المركزية، أي أنها تعمل على نقل الوظائف التنفيذية من الحكومة المركزية إلى هيئات محلية مستقلة إدارياً، مع بقائها خاضعة لرقابة السلطة المركزية. واللامركزية السياسية، وهي أسلوب من أساليب الحكم، يتصل بوحدة الدولة السياسية، فيتضمن سلطة التشريع والتنفيذ والقضاء، أي أن اللامركزية السياسية تقسم السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بين المركز والأقاليم، غالباً عبر مجالس منتخبة. وكذلك اللامركزية المالية، وتتمثل اللامركزية المالية في الإقرار بحق السلطات المحلية اللامركزية في تأمين موارد ذاتية من مصادر يحددها القانون، أي أنها تمنح السلطات المحلية القدرة على إدارة مواردها المالية، وجباية الضرائب أو تخصيص ميزانيات مستقلة. وأيضاً اللامركزية الجغرافية، وتتمثل في عملية توزيع السلطة بين أقاليم ومحافظات ومناطق القطر الواحد التي تتمتع بشخصية معنوية، تُناط بمجلس محلي ينتخب مواطنو الإقليم جميع أو بعض أعضائه، وتكون له صلاحية وضع ميزانية مستقلة واتخاذ القرارات الإدارية المتعلقة بإدارة المشروعات والمرافق العامة في حدود ذلك الإقليم أو المحافظة. ويُطلق بعضهم على هذا النوع من اللامركزية “الإدارة المحلية” أو “إدارة الأقاليم والمحافظات”. فاللامركزية الجغرافية إذاً تعد تنظيم الدولة على أساس وحدات إدارية إقليمية كالأقاليم أو المحافظات، وتتمتع باستقلال نسبي في إدارة شؤونها. وأخيراً، اللامركزية الديمقراطية، وهي مفهوم إداري سياسي مجتمعي يحقق التحول الديمقراطي ويضمنه من خلال مشاركة فعلية للمناطق والسلطات المركزية على أساس مبدأ تقاسم السلطة، ويحقق أقصى حد للتغيير الجذري الشامل في بنية النظام المركزي عبر صلاحيات محددة للمركز، وأخرى للمناطق التي تُدار ذاتياً، وآخرها عبر صلاحيات مشتركة ما بين المركز والإدارات الذاتية. أي أنها تمثل نهجاً شاملاً يربط بين الإدارة الذاتية الديمقراطية والمشاركة الشعبية الفاعلة في صنع القرار، ويقوم على تقاسم السلطة بما يضمن تمثيلاً عادلاً واستجابة حقيقية لاحتياجات المجتمعات المحلية.

ما هي المقومات المتوفرة لتحقيق اللامركزية في سوريا؟

تنوع المجتمع السوري الإثني والمذهبي والطائفي، فتتسم سوريا بتعدد مكوناتها القومية والدينية من عرب، كرد، سريان، آشور، أرمن، شركس وغيرهم، ولكل مكون خصوصيته الثقافية والاجتماعية، وقد تم قمع هذا التنوع وتغييبه ضمن نموذج الدولة القومية المركزية. وتضم سوريا طوائف متعددة، مثل السنة والشيعة والعلويين والدروز والإسماعيليين والمسيحيين بمذاهبهم المختلفة، فهذا التنوع الطائفي يحتاج إلى إدارة تضمن العدالة والمساواة في التمثيل والحقوق، وهو ما يمكن للامركزية أن توفره من خلال تقاسم السلطة والإدارة محلياً بما يخفف من النزاعات ويعزز التعايش. وكذلك المعادلة الاقتصادية–الجغرافية غير المتكافئة، فتتسم الجغرافيا السورية تاريخياً بعدم التوازن في توزيع الموارد والبنى التحتية، فالثروات الزراعية مثلاً تتركز في حوران والجزيرة وعفرين، بينما النفط في دير الزور والحسكة، في حين تتركز الصناعة في حلب ودمشق. فهذا الواقع يؤسس لإمكانية أن تتولى السلطات أو الإدارات المحلية–الذاتية إدارة مواردها وتخطيط تنميتها بما يتلاءم مع احتياجاتها، أي توزيع عادل للثروة وتنمية ديمقراطية. وأيضاً انهيار النموذج المركزي وبروز بدائل مقبولة، فإن الصراع الذي تحول إلى أزمة مستفحلة منذ ١٤ عاماً قد أدى إلى تفكك سلطة الدولة المركزية في عدة مناطق، وأدى كذلك لتنامي الوعي الشعبي، مما أتاح ظهور نماذج حكم وإدارة محلية بديلة، أبرزها تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، وقد مثلت هذه التجربة تحولاً نوعياً من خلال بنية مؤسساتية تشاركية ومجالس منتخبة تدير المنطقة على أسس سياسية–جغرافية، وتدير ملفات الأمن والدفاع والعدالة الاجتماعية والتعليم المتنوع والاقتصاد المجتمعي دون تمييز، ما أثبت أن المجتمعات قادرة على إدارة شؤونها ذاتياً إن منحت الفرصة. ولا ننسى أن هناك مناخاً دولياً داعماً للامركزية، فمعظم المبادرات الدولية لبناء الدولة السورية تنطلق من نموذج لامركزي، كما توصي به مقررات جنيف والقرار الأممي /٢٢٥٤/ (الصادر عام ٢٠١٥)، والذي يدعو إلى صياغة دستور جديد يضمن مشاركة كل المكونات السورية، وهذا ما يعزز من فرص اللامركزية كخيار مدعوم دولياً وواقعياً.

ماذا نكسب من طرح فكرة اللامركزية كنظام لحل الأزمة في سوريا؟

تفادي تكرار أخطاء المركزية المتطرفة ومرونة في التعامل مع الأزمات، وكذلك ضمان وحدة البلاد ومنع التقسيم، وتعزيز الديمقراطية والمشاركة السياسية، وأيضاً تحقيق التنمية المتوازنة.

وعلى الرغم من كل التحولات والتطورات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شكلت مفاهيم اللامركزية في العصر الحديث، فإن سوريا الدولة لها تجربة ريادية مختلفة، إذ أن أول دستور لامركزي في الشرق الأوسط؛ كان دستور سوريا عام 1920، حيث نصت المادة الثانية على أن “المملكة السورية تتألف من مقاطعات تشكل وحدة سياسية لا تقبل التجزئة”، وعليه، فإن اللامركزية ليست بدعة أو حالة طارئة في سوريا بل كانت دائماً ومنذ تأسيس المملكة السورية إلى اللحظة الحالية قضية مطروحة ومتداولة لها الأسانيد القانونية والدستورية.

الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تقوم الآن بتجربة اللامركزية على الأرض، ما أمثلة ذلك؟

أثبتت الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا قدرتها على قراءة المشهد السياسي بدقة، كما أثبتت قيادة مكونات شمال وشرق سوريا، بتنوعها، نحو تماسك أكبر في مواجهة التحديات، ومن خلال تبنيها نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية كنموذج لامركزي وديمقراطي، فتمكنت من تعزيز التلاحم بين المكونات المتعايشة، وإرساء نموذج للحكم الرشيد والقريب من الشعب. وأمثلة ذلك (الاتفاقية التي أُبرمت بين المجلس العام لحيي الشيخ مقصود والأشرفية من جهة، واللجنة المكلفة المعينة من جهة أخرى، والمتصلة بالاتفاقية المبرمة في ١٠ آذار ٢٠٢٥ بين القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي ورئيس سلطة دمشق أحمد الشرع)، قد شكلت دعامة مهمة لبناء سوريا المستقبل.