تقرير/ لطفي توفيق
عشر سنوات.. مرّت على انطلاقة الاحتجاجات التي بدأت سلمية في سوريا، ثم تحوّلت إلى حرب شبه شاملة أسفرت تداعياتها عن نتائج مأساوية، ما زالت جاثمة على صدور السوريين حتى يومنا هذا.
منذ عشر سنوات نزلت أعداد كبيرة من السوريين إلى الشوارع للمطالبة بإصلاحات ديمقراطية، وتحوّلت من احتجاجات محدودة إلى انتفاضة شعبية في معظم المناطق السورية.
وقوبلت بعنف شديد أسفر عن سقوط مئات القتلى والجرحى.
ومع انزلاق بعض المحتجين إلى عسكرة الحراك السلمي، واستغلال المنظمات الأصولية المتشددة لهذا الحراك، ومواجهته بالعنف والقوة المفرطة، بدأ المسلسل الدموي في سوريا، ومازال مستمراً حتى يومنا هذا.
عشر سنوات تعرّض الشعب السوري خلالها لكل أنواع المخاطر والمآسي، وتسبّبت بأكبر أزمة نزوح في هذا القرن، حيث شردت أكثر من نصف عدد سكان وطننا، بين لاجئ ونازح ومفقود.
وخلال هذه السنوات لحقت أضرار مدمرة بجزء كبير من البنية التحتية السورية، وشمل الدمار مختلف مجالات حياة السوريين كالنظام الصحي والتعليمي والمعيشي.
كما شمل العلاقات الاجتماعية، بدءاً من الأسر التي تفككت علاقاتها بسبب التهجير، أو سفر معظم أفرادها بحثاً عن لقمة العيش، أو عن أماكن آمنة.
ومروراً بالنسيج الاجتماعي الذي تمزق بحكم الولاءات القبلية، أو المذهبية الجديدة، والأعمال القتالية المترتبة على هذه الولاءات في معظم المناطق.
وليس انتهاء بالتشرذم، والبحث عن الخلاص الفردي، أو توهّم ذلك.
وخلال هذه السنوات راودت السوريين أحلام الحرية، والحياة الكريمة في وطن حر، يحتض كل أبنائه.
ولكن أحلامهم تحولت إلى كوابيس متواصلة، مع سيطرة لغة الدم والرصاص، على لغة الحوار والسلام.
تمزيق الجغرافيا
أنهت الأزمة السورية عامها العاشر بمزيد من المعاناة الإنسانية، بعد أن فشل السوريون والعالم بوقف المجازر التي ترتكبها الجهات المتصارعة على الساحة السورية، والمليشيات الداعمة لها بحق المدنيين السوريين على مدار العقد الماضي، مخلفة مئات آلاف القتلى والجرحى والمعتقلين والمفقودين، وملايين النازحين واللاجئين الذين فروا من المناطق الساخنة حفاظاً على حياتهم.
وأدت سيطرة التنظيمات الإرهابية على مساحات واسعة من البلاد، إلى زيادة معاناة المدنيين السوريين، وتمزق الجغرافيا السورية.
كما ارتكبت تنظيمات إرهابية العديد من المجازر، مثلما فعلت داعش، والقاعدة، والنصرة، وغيرها من التنظيمات التي اتخذت من مطالب السوريين المحقة، ستاراً يخفي أهدافها التخريبية، وعززت هذه المجازر الأحقاد وتمزيق الجغرافيا في أماكن حدوثها.
وإلى ذلك ذهب الغرباء، فمنذ تدخلها العسكري عام 2015، قامت روسيا بقصف عدة مناطق في سوريا شملت المدنيين والمنشآت المدنية.
وكذلك فعل الإيرانيون عن طريق المليشيات التي جاؤوا بها من أقطار شتى، بالإضافة لعناصر حزب الله اللبناني، لتساهم تلك الجهات بتمزيق الجغرافيا السورية.
كما أصبح المجال الجوي السوري ساحة لتصفية الحسابات الإسرائيلية مع إيران، حيث تخترق الطائرات الحربية الإسرائيلية الأجواء السورية، وتستهدف التواجد الإيراني في سوريا.
أزمة النزوح ومعاناة اللاجئين
أُجبر أكثر من ستة ملايين سوري على هجر بيوتهم واستبدالها بأماكن أكثر أماناً داخل سوريا، وفر أكثر من خمسة ملايين من البلاد، حسب معلومات منظمة العفو الدولية.
ومن استطاع منهم العودة إلى البلد، أو إلى مناطقهم الأصلية خلال العامين الماضيين عبر وكالات الأمم المتحدة، أو غيرها، واجهته ظروف معيشة قاسية، فمعظم المناطق تضرّرت بسبب الحرب، ولا يزال الحد الأدنى من مقومات الحياة الأساسية نادر الوجود، حيث شهدت البنى التحتية دماراً واسعاً، ويحتاج إصلاحها إلى معجزة صعبة الحدوث في هذا الزمن.
وبقي اللاجئون رهينة للمساومات عليهم، والاتجار بوجودهم في معظم البلدان التي تستضيفهم.
كما فعل النظام التركي عندما أعلن أن سلطاته لن تعترض طالبي اللجوء الراغبين في مغادرة تركيا، والتوجه نحو الاتحاد الأوروبي.
فتجمع الآلاف من طالبي اللجوء، وغالبيتهم من السوريين، على حدود تركيا مع اليونان، ومن تمكن منهم من العبور إليها، احتجزتهم قوات الأمن اليونانية، ومارست عليهم الاعتداءات والسرقة، والسلب، ثم أجبرتهم على العودة إلى تركيا.
في حين تواصل تركيا احتجازهم وترحيلهم بطرق قسرية إلى شمال سوريا، في انتهاك فاضح لالتزاماتها بحقوق اللاجئين بموجب القانون الدولي.
وفي لبنان يتحمل اللاجئون السوريون وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية العميقة في البلاد، إضافة إلى التمييز الذي يتعرضون له على الصعيد الرسمي في لبنان وغيره من البلدان التي تستضيفهم.
انتهاكات الجيش والحلفاء
خلال هجمات الجيش السوري المدعومة من روسيا لاستعادة المناطق التي تسيطر عليها تركيا والمجموعات التي تدور بفلكها، وقعت إصابات بالمدارس، والمستشفيات، والأسواق، والمنازل، والملاجئ.
ووثقت منظمة هيومن رايتس ووتش 18هجوماً في إدلب خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الماضي، تسببت بمقتل 112 شخصاً، وإصابة 359 آخرين، وتدمير بعض المدارس والمنشآت الصحية.
وحسب “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” أوقفت 84 منشأة طبية عملياتها في محافظتي إدلب وحلب، كما أفادت منظمة “إنقاذ الطفولة” أن 217 مدرسة هجرت أو تضررت جرّاء النزاع في إدلب خلال الفترة نفسها.
كما تشير التقارير إلى أن إيران تستغل القتال ضد داعش لتوسيع نفوذها، وتعزيز أهدافها الرامية إلى الهيمنة على المجتمع السوري من خلال الميليشيات التابعة لها.
واستقدام المرتزقة من بلدان مختلفة للقتال في سوريا، إضافة إلى الدور الذي يقوم به حزب الله اللبناني في سوريا.
والعمل على نشر ظاهرة التشيّع عن طريق خلاياها المنتشرة في معظم المناطق السورية، وخاصة في الجنوب السوري.
انتهاكات الجماعات الأصولية
لا تزال “هيئة تحرير الشام”، تسيطر على عدة مناطق في إدلب، وتواصل قمعها الوحشي ضد المدنيين.
وحسب لجنة التحقيق الدولية، شملت انتهاكات الهيئة الاعتقالات، وتعذيب المعتقلين، والإعدام بلا محاكمات، والنهب، والابتزاز، واحتكار الكهرباء، وخدمات الإنترنت.
ووثقت اللجنة أربع حالات إعدام لمحتجزين لديها، نفذتها الهيئة دون محاكمة.
وعرقلت الهيئة مراراً وصول المساعدات الإنسانية والخدمات الصحية لمستحقيها.
وتحدثت عشرات التقارير عن حالات مشابهة قامت بها الجماعات الإرهابية الأخرى مثل داعش وأخواتها.
انتهاكات تركيا وأتباعها
قامت تركيا والميليشيات التي تدعمها بقصف المباني المدنية، والنهب الممنهج للممتلكات الخاصة، واعتقال المئات، وتنفيذ الإعدامات دون محاكمة، في المناطق التي تحتلها في شمال شرق سوريا.
وبحسب لجنة التحقيق الدولية، ارتكبت القوات المدعومة من تركيا جرائم العنف الجسدي والجنسي ضد النساء والرجال في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
وعرقل النظام التركي والفصائل الموالية له، وصول المياه إلى مناطق شمال شرق سوريا، وحرم قرابة 900 ألف مواطن من مياه محطة علوك بالقرب من بلدة رأس العين.
واعتمد البرلمان الأوروبي مؤخراً، مشروع قرار يتهم تركيا بارتكاب انتهاكات في سوريا، ويدعوها إلى سحب جنودها من شمالي هذا البلد، معتبراً أنها “احتلت شمال سوريا، وعرضت السلام في الشرق الأوسط وشرق المتوسط للخطر”.
تدمير الاقتصاد
رغم انخفاض حدة النزاع، شهد الاقتصاد السوري بسببه تراجعاً حاداً في العام الماضي، وترافق مع انخفاض غير مسبوق في قيمة العملة الوطنية، وفرض المزيد من العقوبات الدولية، مما تسبب بعجز المواطنين عن شراء الغذاء والأدوية، وضروريات الحياة الأخرى، وجعل أكثر من تسعة ملايين سوري يفتقرون إلى الأمن الغذائي.
وتسببت الحرب المستمرة منذ عشر سنوات في تدمير الاقتصاد والنظام الصحي في البلاد، وهو ما أعاق جهود التصدي لتفشي فيروس كورونا، والتخفيف آثاره، حتى في المناطق التي انحسرت فيها الاشتباكات.
ضحايا الصراع
قالت الأمم المتحدة إن “الفئة الكبرى من السوريين تحت خط الفقر، في وقت يحتاج فيه ملايين الأشخاص إلى الدعم لإعادة بناء حياتهم وموارد رزقهم وخلق وظائف ومصادر دخل والحفاظ عليها”.
ولا يتوقف الأمر عند الخسائر الاقتصادية، بل أدت الأحداث المروعة إلى فقدان التوازن النفسي لدى العديد من السوريين.
وأوردت الأمم المتحدة في تقرير لها أن “الناس بحاجة إلى المساعدة للتعامل مع التداعيات النفسية والعقلية التي نجمت عمَّا مروا به خلال سنوات الحرب”.
وقدّر “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” أن 11.7 مليون شخص في سوريا سوف يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية والحماية.
وقالت مصادر في الأمم المتحدة أن أكثر من ستة ملايين سوري نزحوا داخل البلاد، يقيم عدد كبير منهم في مخيمات عشوائية، فيما بات أكثر من 5.6 مليون سوري لاجئين أو طالبي لجوء في دول أخرى، مثل تركيا ولبنان والأردن.
وذكر الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” أن آلاف المدنيين الذين هم في عداد المفـقودين يتعرضون لمعاملات سيئة وللتعـذيب، وأكد على ضرورة عدم السماح بارتكاب مجازر جديدة في سوريا.
ولفت إلى أن “الجـرائم الرهيبة في سوريا لا يجب أن تمر دون عقـاب”.
والأطفال ضحايا
تتواصل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأطفال، بما في ذلك تجنيدهم واختطافهم وقتلهم وإصابتهم. وملايين الأطفال السوريين الذين لدوا منذ بدء الأزمة، لا يعرفون شيئًا سوى الحرب والنزوح.
ويوجد في سوريا أكثر من مليوني طفل وطفلة خارج المدارس قبل عام 2020، نتيجة الصراع المستمر في البلاد، وبسبب تأثير جائحة كورونا التي أدت إلى المزيد من تعطل العملية التعليمية في سوريا.
ومن المؤكد أن يكون العدد قد ارتفع كثيراً، حيث بقيت واحدة من كل ثلاث مدارس داخل سوريا صالحة للاستخدام، وتعرضت المدارس الأخرى للدمار الكلي أو الجزئي، أو استخدمت كمواقع عسكرية من قبل أطراف الصراع.
والأطفال الذين التحقوا بالمدارس، يتعلمون غالباً في صفوف دراسية مكتظة، وفي أبنية غير مجهزة للتعليم، ولا تحتوي على ما يكفي من المياه ومرافق الصرف الصحي والكهرباء والتدفئة أو التهوية.
تقلبات المشهد
شهدت الساحة السورية خلال الأعوام الماضية سلسلة من التحولات السياسية والمتغيرات الميدانية، بتأثير العوامل الخارجية والفواعل الدولية والإقليمية، جعلت من أطراف الصراع، الحلقة الأضعف في التأثير على القرار السوري، فتحول السوريون إلى مجرد عامل ثانوي مكمل للمشهد القائم في بلادهم، لا أكثر.
وما زاد الطين بلة والواقع تعقيداً، إصرار القوى الدولية المتنافسة على اقتسام الكعكة السورية، واستمرارها بفتح المجال أمام الإرهاب العابر للحدود للعبث في سوريا بهدف حجز مكان لهذه القوى على رقعة الشطرنج السورية.
مما جعل انحسار العمليات القتالية، وتراجع حدتها، لا يعني بالضرورة الاقتراب من نهاية الأزمة السورية، ولا يعني هزيمة طرف في النزاع، أو انتصار آخر.
بل تشير إلى ضرورة الانتقال من مرحلة الصراع، إلى مرحلة العمل السياسي، من خلال وقف القتال وأعمال العنف، والاتفاق على دستور يكتبه، ويقبله السوريون، وفتح الباب أمام عودة اللاجئين في الداخل والخارج لوطنهم وبيوتهم، ويضمن عودة الحياة الطبيعية إلى الوطن المنكوب.
غير أن سوريا، بوضعها الحالي، غير قادرة على فعل ذلك دون تعاون المجتمع الدولي، بعيداً عن سياسات الاستقطاب والتنافس على المكاسب والنفوذ.
ولن يتحقق ذلك دون تعاون كل السوريين، وإصرارهم على إنقاذ بلدهم، والتضحية من أجلها، ومن أجل مستقبل أجيالهم القادمة.