لكل السوريين

بابا الفاتيكان من بلاد الرافدين.. كفى عنفاً وتطرفاً يجب أن نسير معا تحت راية أبينا إبراهيم

تقرير/ لطفي توفيق 

في خطوة وصفت بالتاريخية، قام البابا فرنسيس بزيارة الى بلاد الرافدين شملت عدداً من المدن والمحافظات العراقية، والتقى خلالها كبار المسؤولين السياسيين والروحيين، وركزت محادثاته معهم على القيم السماوية التي تجمع الأديان، وضرورة نبذ العنف، والتلاقي على الخير وعلى الانفتاح على الآخر، والعيش معاً في وئام وسلام.

وفي حين توقع كثيرون أن يلغي البابا رحلته، مع تفشي وباء كورونا، والتفجيرين الانتحارين في ساحة الطيران وسط بغداد في كانون الثاني الماضي، وسقوط قتلى خلال التصدي الأمني لاحتجاجات في محافظة ذي قار قبل أيام، وإصابة السفير البابوي في العراق بفيروس كورونا.

إلّا أن كل ذلك، لم يدفع الفاتيكان إلى إلغاء أو تأجيل زيارة البابا إلى بغداد. وتحقيقه لحلم سلفه البابا يوحنا بولس الثاني الذي قرر القيام بزيارة مماثلة بهدف الحج إلى مسقط رأس النبي إبراهيم، ضمن رحلته إلى الأراضي المقدسة، مطلع الألفية.

لكن النظام العراقي السابق أعلن عن عدم قدرته على تنظيم الزيارة، بسبب ظروف الحصار الذي كان مفروضاً على البلاد. مما جعل الزيارة الحالية تثير العديد من التساؤلات حول إصرار بابا الفاتيكان على القيام بها، ودلالاتها، وما الذي يمكن أن تتمخض عنه في المستقبل القريب والبعيد.

دلالات ورسائل

عشية زيارته قال البابا فرنسيس، مخاطباً الشعب العراقي عبر رسالة بالفيديو “أوافيكم حاجاً تائباً لكي ألتمس من الرب المغفرة والمصالحة بعد سنين الحرب والإرهاب، ولأسأل الله عزاء القلوب وشفاء الجراح”.

وأضاف: “وأسعى خلف الأخوة وتدفعني الرغبة في أن نصلي معا ونسير معا ومع الإخوة والأخوات في التقاليد الدينية الأخرى أيضا، تحت راية أبينا إبراهيم، الذي يجمع في عائلة واحدة المسلمين واليهود والمسيحيين”.

ورغم أن هذه الزيارة تعني كل العراقيين، من خلال دلالاتها ورسائلها، ولكنها تمثل دعماً للمسيحيين، وتؤكد على أهمية استمرارية وجودهم في بلادهم رغم صعوبة العيش فيها حالياً.

كما تشكل الزيارة دعوة مهمة للحد من التطرف والوقوف في وجه من يدعو إليه. والتطرف الديني في العراق لا يأتي من قبل داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى فقط، بل من الذين يرفضون التنوع الديني الذي تميز به العراق أيضاً.

وزيارة البابا إلى النجف والموصل وقرقوش في سهل نينوى وأربيل ذات رمزية عالية لا تخفى على المتابعين لهذه الزيارة.

الدين في خدمة السلام

في مستهل زيارته للعراق، دعا البابا فرنسيس إلى تعزيز السلام في المنطقة، وإلى أن يكون الدين في خدمة السلام والأخوّة.

وناشد المجتمع الدولي لأداء دور حاسم في تعزيز السلام في العراق والشرق الأوسط.

وقال في كلمة ألقاها أمام رئيس الجمهورية العراقية، برهم صالح، لدى استقباله له “إن التحديات المتزايدة تدعو الأسرة البشرية بأكملها إلى التعاون على نطاق عالمي لمواجهة عدم المساواة في مجال الاقتصاد، والتوترات الإقليمية التي تهدد استقرار هذه البلدان”.

وأضاف: “فلتصمت الأسلحة”، “وليكن الدين في خدمة السلام والأخوّة”.

كفى عنفاً وتطرفاً

دعا البابا فرنسيس الى وقف العنف والتطرف، وأشاد بمحاولات العراقيين خلال الفترة الأخيرة لإرساء الأسس لمجتمع ديموقراطي، مشدداً على ضرورة مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية والدينية، وتوفير الحقوق الأساسية لجميع المواطنين، بحيث لا يعتبر أحد مواطنا من الدرجة الثانية، ومشيراً إلى أن المسيحيين في العراق يشكون من التمييز.

وتحدث عن معاناة الأيزيديين، الذين تعرضوا للاضطهاد والقتل بسبب انتمائهم الديني، خلال سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق.

ومن جهته قال الرئيس العراقي لدى استقباله البابا إن العراق لن يقبل بممارسة الإرهاب باسم الدين، وأشار إلى أن “العراقيين يفخرون بتاريخ طويل من التعايش الديني بين مختلف الطوائف”.

ودعا إلى عودة المهجرين من العراق، بما فيهم المسيحيين، مشيرا إلى أهمية العمل على “إعادة هؤلاء دون إكراه وعبر مغريات كاستتباب الأمن والتنمية الاقتصادية”.

وأوضح أنه لا يمكن تخيّل الشرق دون المسيحيين، مؤكدا أن استمرار هجرتهم إلى جانب الأقليات الأخرى سينعكس سلباً على المجتمع وقيم العيش المشترك والتسامح.

البابا في النجف

في محطة مهمة خلال زيارة الحبر الأعظم للعراق، التقى المرجع الشيعي الأعلى بالعراق آية الله علي السيستاني في النجف، وعقد الرجلان لقاء مغلقاً لمدة ساعة، وذكر بيان رسمي صدر عن مكتب السيستاني أن المرجع الشيعي الأعلى أكد للبابا اهتمامه بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام، وبكامل حقوقهم الدستورية.

وحسب البيان، أكد السيستاني على أهمية تثبيت قيم التعايش السلمي والتضامن الإنساني،

وتضافر الجهود لتثبيت قيم التآلف والتعايش السلمي والتضامن الإنساني القائمة على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين أتباع مختلف الاديان والاتجاهات الفكرية في كل المجتمعات.

وكان من المتوقع أن يوقع بابا الفاتيكان مع السيستاني وثيقة أخوة إنسانية شبيهة بتلك التي وقعها مع إمام الأزهر قبل عامين.

وثيقة الأخوة الإنسانية

وكان بابا الكنيسة الكاثوليكية قد وقع وثيقة الأخوة الإنسانية في أبوظبي، مع شيخ الأزهر فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب، يوم 4 شباط 2019، ووضعت هذه الوثيقة شعوب العالم بكافة دياناتها ومذاهبها وأعراقها على سوية واحدة دون فروق، فالجميع عباد الله خلقهم ليكونوا أخوة متسامحين ومتعايشين ويعملون لمصلحة البشرية في كل مكان.

وتضمنت الوثيقة عدة محاور منها أن التعاليم الصحيحة للأديان تدعو الى التمسك بقيم السلام، وأن الحرية والتعددية حق لكل انسان اعتقادا وممارسة، وأن الحوار والتفاهم وثقافة التسامح ضرورة بين البشر الى جانب إدانة الإرهاب والتطرف بكل أشكاله.

وبعد عامين اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالوثيقة كيوم الدولي للأخوة الإنسانية منذ 4 شباط 2021.

وأشاد قرار الأمم المتحدة باللقاء الذي عقد بين قطبين كبيرين في العالم الإسلامي والمسيحي في أبوظبي وأسفر عن توقيع الوثيقة من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، كما أكد القرار على المساهمات القيمة للشعوب من جميع الأديان والمعتقدات للإنسانية وعلى دور التعليم في تعزيز التسامح والقضاء على التمييز القائم على أساس الدين، وأثنى على مبادرة الإمارات لقيامها بهذا الدور.

وبعد اعتماد الوثيقة من الأمم المتحدة، دعا شيخ الأزهر إلى الانضمام لها والاصطفاف خلف مبادئها.

وقال الدكتور الطيب إن الاحتفال بـ “وثيقة الأخوة الإنسانية” هو احتفاء بحدث تاريخي ولد منذ عامين، ليبشر ببدء رسالة سلام يحملها عقلاء العالم إلى البشرية جمعاء، تدعو للتآخي والتعاون، ونشر ثقافة التسامح والوئام، ونبذ التعصب والكراهية، وسياسات القوة والاستعلاء.

وبدوره أكد البابا فرنسيس، خلال كلمته باحتفال اللجنة العليا للأخوة الإنسانية باليوم العالمي للأخوة الإنسانية، على ضرورة تطبيق بنود وثيقة الأخوة الإنسانية وقال “إما أن نكون إخوة أو سينهار كل شيء”، موضحا أن هذا الأمر هو مشكلة القرن الذي نعيشه، وأن الأخوة تعني الاحترام والاستماع بقلب منفتح، والقبول الصادق، وعلينا ألا نتخلى عنها.

رسول المتعبين في أرض إبراهيم

منذ توليه منصبه في عام 2013، اتسم خطاب البابا فرنسيس بحساسية عالية تجاه الفقراء والمهمشين والمتعبين، وهو الآتي من إرث لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، وحامل فلسفة الرهبنة اليسوعية القائمة على التبشير.

وبرز هذا التوجه بخطوات عملية، مثل تعيينات لبطاركة ومطارنة من جنسيات وأعراق مختلفة، وتوسيع نطاق زياراته، خارج الجغرافيا الأوروبية، ومحاولاته أن تخاطب الكنيسة في عهده كافة الأديان والشعوب.

ويرى بعض المراقبين أن زيارته للعراق، تشكل خطوة جديدة في اتجاه تثبيت نفسه كرسول للمتعبين، يقدم رسالة احتضان إلى الشعوب الجريحة تحت وطأة الحروب والانقسامات.

ويدعو إلى التسامح والعيش المشترك بين أطياف هذه الشعوب بكافة مكوناتها بغض النظر عن انتماءاتها العرقية أو الدينية.

ومن هذا المنطق جاءت زيارته إلى سهل أور الذي يحظى باهتمام أصحاب الرسالات السماوية، للتذكير بصورة العراق الحضارية والثقافية والإنسانية، بعد أن طغت عليها الصور المرتبطة بالحروب والمجازر والدمار والعنف والإرهاب. فبلاد ما بين النهرين هي المهد الأول لتشكل الفكرة الدينية لدى الحضارات القديمة.

ولذلك فهي تحظى بمكانة رمزية لدى أتباع الديانات السماوية كافة، حيث يجمع اليهود والمسيحيون والمسلمون على الاعتقاد بأن ميلاد النبي إبراهيم كان في سهل أور الذي زاره البابا.

وتشكل شخصية النبي إبراهيم دافعاً للتقارب بين أصحاب الرسالات السماوية، على اختلاف أتباعها. لذلك فإن زيارة البابا إلى مسقط رأسه تأتي في إطار سعيه لما يجمع أصحاب هذه الرسالات.

وبهذا الاتجاه ذهبت زيارته إلى أربيل حيث التقي بالسلطات الدينية والمدنيّة في إقليم كردستان العراق، وأقام القداس الإلهي في ملعب “فرانسو حريري”.

ردود الفعل

جاءت كل ردود الفعل على زيارة البابا فرنسيس إلى العراق مرحبة بها، ومستبشرة بنتائجها، باستثناء بعض الأصوات من إيران التي انتقدتها، واعتبرها تدخلاً من الفاتيكان بشؤون المسلمين، فيما اعتبرت هذه الأصوات من ضمن حالة التنافس المضمر والمعلن بين مرجعية النجف العراقية، ومرجعية قم الإيرانية.

رسالة تضامن مع ضحايا العنف

أكد مجلس حكماء المسلمين أن زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى العراق، تمثل فرصة لتعزيز السلام، وتبعث برسالة تضامن مع كل ضحايا العنف في المنطقة والعالم.

‎وأشار المجلس في بيان له إلى أن الزيارة تأتي لتضمد جراح الشعب العراقي بعد سنوات طويلة من الحروب والدمار، وتمنح العراق والمنطقة الأمل في غد أفضل قائم على التسامح وقبول الآخر، وتعتبر دعوة للتلاقي على المشتركات وإعلاء مبدأ المواطنة التي تساوي بين الجميع، بعيداً عن دعوات الكراهية والطائفية والاحتراب.

ونوه بيان المجلس إلى أن الزيارة البابوية إلى العراق والجهود التي يبذلها قداسة البابا فرنسيس لتعزيز السلام تتسق مع رؤية مجلس حكماء المسلمين وأهدافه في نشر السلام والتعايش ومواجهة الكراهية والتطرف، وبناء علاقة إنسانية قائمة على المحبة والاحترام المتبادل.

وأشار البيان إلى أن زيارات البابا المتعددة إلى العالم الإسلامي، عززت جسور الحوار والتلاقي بين الشرق والغرب، وتكاملت مع جهود فضيلة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، وجولاته وتحركاته في الغرب.

رسالة سلام وتضامن

واعتبر شيخ الأزهر أحمد الطيب، أن زيارة البابا فرنسيس إلى العراق “تاريخية وشجاعة”، ووصفها بأنها “رسالة سلام وتضامن”.

وقال شيخ الأزهر: “زيارة أخي البابا فرنسيس التاريخية والشجاعة للعراق العزيز تحمل رسالة سلام وتضامن ودعم لكل الشعب العراقي”.

وإضافة إلى ترحيب رئيس الجمهورية العراقي، ورئيس الوزراء، رحّب زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، بزيارة البابا إلى العراق.

كما رحّب رئيس الجمهورية اللبنانية، العماد ميشال عون، بزيارة البابا، وأعرب عن أمله بأن تعطي دفعاً لإرساء سلامٍ حقيقي يحتاجه شعب العراق وسائر شعوب المنطقة.

كما رحّب بهذه الزيارة كل من الرئيس المكلّف، سعد الحريري، ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان الشيخ عبد الامير قبلان، ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ورئيس حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميل.