لكل السوريين

تركيا 2050 أوهام أردوغان العثمانية

تقرير/ محمد الصالح

تستمر محاولات نظام أردوغان في العمل على إحياء الإمبراطورية العثمانية البائدة، سواء عن طريق التدخل المستمر بالشؤون الداخلية للدول العربية والإسلامية المحيطة بتركيا لتعزيز نفوذها في هذه الدول، أو إعادة رموز كنسية وتحويلها إلى مساجد، أو التقاط وترسيخ كل ما يمكن أن يعزز الحضور العثماني في مفاصل المجتمع التركي.

وفي خطوة جديدة بهذا الاتجاه، عرضت قناة رسمية تابعة للنظام التركي خريطة لمناطق النفوذ التركي المتوقعة في عام 2050، وشملت الخريطة شبه الجزيرة العربية ودول الخليج العربي والعراق وسوريا والأردن ومصر وليبيا واليونان وبعض المناطق الروسية، كشبه جزيرة القرم وكوبان ومنطقة روستوف وجمهوريات شمال القوقاز، وبعض دول من شمال إفريقيا، وأظهرت القناة الحكومية هذه المناطق باللون الأحمر.

وبقيت إسرائيل وإيران خارج هذا النفوذ المزعوم، ولم يشملهما اللون الأحمر التركي.

وهو ما يثير الكثير من التساؤلات حول نوايا المركز الأمريكي “ستراتفور” الذي أصدر كتاب مؤسس المركز جورج فريدمان، بعنوان مئة سنة قادمة، المتضمن تلك الخريطة، وسبل تنفيذها بناء على توقعات فريدمان الذي تجنب فيما يبدو إغضاب دولة الاحتلال الإسرائيلي فأخرجها من الخريطة.

ومركز “ستراتفور” للأبحاث في مجال السياسة الدولية، هو مركز دراسات استراتيجي وأمني يعنى بقطاع الاستخبارات، وتطلق الصحافة الأمريكية عليه اسم “وكالة المخابرات المركزية في الظل”، ومعظم خبرائه من الضباط والموظفين السابقين في الاستخبارات الأمريكية.

ردود فعل

فور نشرها أثارت الخريطة جدلاً واسعاً، وردود فعل متباينة كان أشدها من روسيا، حيث ضمت الخريطة المفترضة مناطق كثيرة منها.

وبحسب وكالة “سبوتنيك” الروسيّة، فإن النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما الروسي دعا حكومة بلاده للنظر إلى الأمر بشكل جدي، ونوه إلى أن تركيا بعد عمليات قره باغ، آمنت تماماً بقوتها، وبالتالي فهي تشير “رسمياً”، إلى أين ستذهب بعد ذلك.

وأشار إلى أن أردوغان يحلم بأن يحول تركيا إلى دولة عظمى، وأن يعيد إحياء الدولة العثمانية.

ونوّه مسؤول آخر بمجلس الدوما إلى أن القيادة التركية لديها رغبة بإعادة بناء الإمبراطورية العثمانية، ولكنه شكك في أن تحاول أنقرة ضم الأراضي الروسية بالقوة.

وعلّق سيناتور روسي على ذلك بقوله “هل من أحد يخبر أردوغان أن زمن الدولة العثمانية البائدة قد ذهب إلى غير رجعة”.

ولكن الاهتمام الروسي بالخريطة المفترضة، يوحي بأن موسكو لا تنظر للأمر على أنه مجرد توقعات سياسية، وبأنها ترسل رسائل تدل على يقظتها، في حال كانت أنقرة جادة في تحويل هذه الخريطة إلى واقع فعلي.

وتعقيباً على نشر التلفزيون التركي للخريطة المفترضة التي تشمل شبه جزيرة القرم الروسية، حذّر مسؤول برلماني من الجزيرة تركيا بقوله “يمكن فقط أن ننصح تركيا بترك أحلامها بشأن الأراضي الروسية، لأنها ستواجه خطر تقويض سلامتها بسبب طموحاتها المفرطة”.

وفي المنطقة العربية هاجم نشطاء خليجيون ومصريون، نشر الخريطة التركيّة المفترضة، وحذّروا من أطماع رئيس النظام التركي في بلادهم، وأكدوا على ضرورة التصدي لهذه الأطماع.

ومع أنه لم يصدر تعليق رسمي تركي على نشر هذه الخريطة على شاشة إعلام رسمية، إلّا أن نشرها في ظل رقابة شديدة على وسائل الإعلام في تركيا، يؤكد أنه تم بموافقة ضمنية من نظام أردوغان.

ويرجح المحللون أن يكون نشر الخريطة بمثابة بالون اختبار لرصد ردود الفعل على هذه الخطوة.

أوهام النفوذ ليست جديدة

منذ أن تمكن أردوغان من السيطرة على مفاصل السلطة في بلاده، وهو يحاول توسيع نفوذها، واستعادة ما يصفه بأمجاد السلطنة العثمانية بمختلف الطرق والأساليب.

وقد رسم قبل نحو عام، خارطة جديدة لبلاده ضم إليها سوريا وليبيا على اعتبار أنهما أجزاء من الدولة العثمانية التي خسرها الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى، و”حان الآن موعد استعادتها”. وتحدث عمّا يسميه بحرب استقلال جديدة في سوريا وليبيا.

كما أعلنت أنقرة عن خارطة طريق مفصلة لأطماعها التوسعية في شرق المتوسط من خلال وضع اليد على الثروات الطبيعية في المياه الإقليمية لكل من قبرص واليونان وليبيا.

وفي هذا الصدد، نشرت وزارة الخارجية التركية، خريطة تظهر الحقول الجديدة شرقي البحر المتوسط، التي تنوي حكومة العدالة والتنمية التنقيب عن الطاقة فيها.

ونشر عضو في البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم، خارطة لما أسماه “تركيا الكبرى” التي تضم شمالي اليونان وجزر بحر إيجة الشرقية، إضافة لقبرص وأرمينيا ونصف مساحة بلغاريا ومناطق واسعة من جورجيا وسوريا والعراق.

محاولات إحياء الميثاق المللي

بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وفرض الحلفاء اتفاقية سيفر 1919، التي قلصت الحدود والممتلكات العثمانية في شمال إفريقيا والجزيرة العربية وأجزاء من العراق وسوريا، أصدر السلطان العثماني الميثاق المللي كتصرف دعائي للتخفيف من آثار هذه المعاهدة على الأتراك، وأكد خلال هذا الميثاق على أن حدود الدولة التركية ما زالت تتضمن الكثير من الأقاليم التي تنازلت عنها الدولة العثمانية، في تصرف أشار إلى  رفضه لهذه التنازلات من حيث المبدأ، ولكن دون تفعيل هذا الرفض على الأرض نظراً للضعف الذى اعترى الدولة العثمانية آنذاك، إضافة إلى تشرذم الجيش العثماني.

ويحاول نظام أردوغان مسح الغبار عن هذه الوثيقة بهدف إحياء الاهتمام بها، وربطها بقيم الحزب الحاكم لتشكيل ثقافة سياسية شعبية تؤمن بأن الحدود التركية الحالية ليست نهائية، وأن مهمة الأجيال الجديدة هي استعادة الأراضي التي تم التنازل عنها بالقوة قبل قرن كامل.

ثناء على الدولة العثمانية

في الثالث من شهر آذار عام 1924 صدر قانون دستوري بشأن إلغاء الخلافة العثمانية وتجريد السلالة العثمانية من أي حقوق أو ممتلكات في الجمهورية التركية، ونص القانون على منع أفراد السلالة الحاكمة العثمانية من الإقامة داخل تركيا وإسقاط الجنسية عنهم.

ويحاول نظام أردوغان الآن تلميع الصورة العثمانية، والثناء على دولتها.

ويشير في إحدى كلماته إلى أن البعض يعملون على تحديد عام 1923 الذي شهد إعلان الجمهورية التركية، كبداية لتاريخ هذا البلد، وتجريد تركيا من جذورها وقيمها العتيقة، ويؤكد على أنه يتوجب عدم اعتبار الدولة العثمانية والجمهورية التركية ككيانين متعارضين.

وعقب تصريحات أردوغان، أعلن وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أنهم سيعملون لمنح أحفاد السلطان عبد الحميد الثاني الجنسية التركية بقرار من مجلس الوزراء، لكن الدستور التركي يمنع ذلك.

في حين يعقد أشخاص يصفون أنفسهم بأحفاد العثمانيين فعاليات في شتى أنحاء تركيا بهدف مدح السلالة الحاكمة الذين جردهم دستور الدولة التركية من كل شيء.

خريطة تركيا السلجوقية

بمناسبة الاحتفال بذكرى معركة “ملاذ كرد” التي جرت عام 1071، وانتصر فيها السلاجقة على الإمبراطورية البيزنطية، نشر نائب سابق في البرلمان التركي عن حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، خريطة تركية تعود إلى عهد السلاجقة.

وتزامن نشر هذه الخريطة من قبل متين جلونك، المقرب من رئيس النظام التركي، مع التوتر الشديد بين تركيا واليونان بسبب النزاع على موارد النفط والغاز في شرق البحر المتوسط.

وضمت الخريطة التي سمّاها جلونك “تركيا الكبرى” مساحات واسعة من شمال اليونان وجزر بحر إيجة الشرقية، ونصف بلغاريا، وقبرص، وأرمينيا، ومناطق واسعة من جورجيا والعراق وسوريا.

وأثار نشر الخريطة آنذاك جدلاً واسعاً، خاصة أن نشرها جاء في الوقت الذي تتدخل فيه تركيا في العديد من المناطق التي شملتها، ومنها شمال سوريا وشمال العراق، إضافة إلى ليبيا، إضافة إلى احتدام الصراع بينها وبين كل من اليونان وقبرص.

وأن جلونك أرفقها بسلسلة تغريدات مستفزة أشار فيها إلى أن تركيا استعادت روح “ملاذ كرد” بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس رجب طيب أردوغان في 15 تموز عام 2016، وفتحت أبوابها على سوريا والعراق وأفريقيا، والبحر المتوسط، مشبهاً ذلك بما حدث في فترة السلاجقة.

وقال جلونك: “بعد وفاة مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، أصبح الشعب التركي خاملاً ونائماً بسبب تأثير الغرب، إلى أن أيقظه أردوغان، وأعاد إليه روح ملاذ كرد مجدداً، ولذلك يضغط الغرب حالياً من أجل إخراجنا من هذه المناطق، لكنهم يجهلون أننا استعدنا روح الاستقلال، وننطلق مسلحين بالعلم والتكنولوجيا والقوة”.

الوطن الأزرق

تعتبر عقيدة “الوطن الأزرق” التركية من أهم المؤشرات على أطماع أردوغان التوسعية، ويرجع أصل هذه العقيدة إلى خطة وضعها الأدميرال التركي جيم جوردنيز في عام 2006، وتهدف إلى توسيع نطاق نفوذ تركيا في البحر المتوسط، وبحر إيجه، والبحر الأسود، لوصولها إلى مصادر الطاقة والموارد الاقتصادية الأخرى، من خلال الدبلوماسية والوسائل العسكرية.

وتبنى رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان هذه العقيدة في عام 2015 كجزء من استراتيجية ” للدفاع المتقدم” في سياق محاولاته المستمرة لتأكيد استقلال القرار التركي في مجال السياسة الخارجية، وفرض نفوذ نظامه في المناطق المحيطة ببلاده.

وقد تم استعراض مظاهر هذه العقيدة بصورة كاملة أثناء “مناورة الوطن الأزرق” التي جرت في شهر شباط عام 2019، وهي أكبر مناورة قتالية تم القيام بها في بحر إيجه، والبحر الأسود وشرق البحر المتوسط، في وقت واحد، منذ تأسيس البحرية التركية.

ووصفت وسائل الإعلام الحكومية التركية هذه المناورة بأنها “بروفة حرب”.

وتمثل مطالب تركيا المتشددة بالنسبة للطاقة حول المنطقة الاقتصادية الخاصة بقبرص خير مثال على ممارسة رئيس النظام التركي لهذه العقيدة.

توظيف الجاليات الأوروبية

حسب العديد من المتابعات الاستخبارية الأوروبية فإن تركيا أردوغان حاولت دائماً توظيف الجاليات الأوروبية المنحدرة من أصول تركية، لتشكل قوة ضغط سياسية على البلدان التي تعيش فيها، وللدفاع عن سياسة أردوغان العثمانية، ونجحت أحياناً في التجسس على أبناء هذه الجاليات لكشف المناوئين له بهدف اختطافهم أو دفعهم للعودة إلى تركيا ثم اعتقالهم.

ومن خلال تحليل دقيق لمثل هذه الخطوات، يرى المراقبون أنها لم تنجح في بنشر النفوذ التركي في المناطق التي تشير إليه الخريطة الافتراضية بشأن تمدد تركيا فى عام 2050.

ولكنها تحمل مخاطر على أمن البلدان التي تعيش فيها جاليات تركية كبيرة.

أوهام متجذرة.. ومتجددة

أوهام أردوغان بإعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية متجذرة، ومتجددة، وأطماعه بالتوسع الجغرافي كما فعل أجداده العثمانيون، متجذرة، ومتجددة أيضاً.

وكثيراً ما تحدث رئيس النظام التركي عن حق بلاده في التحرر من قيود اتفاقية لوزان.

وكثيراً ما تضمنت خطاباته مصطلحات “الجغرافيا في قلوبنا” و”حدودنا الروحية”.

وكثيراً ما استخدم كافة الوسائل لبناء مواقع نفوذ في أماكن وبلدان مختلفة، سواء عبر التدخل العسكري المباشر كما هو الحال في سوريا والعراق وليبيا، أو عبر المنح الاقتصادية والعسكرية للصومال وجيبوتي، أو من خلال توظيف تطورات سياسية للتمدد كما هو الحال في دول آسيا الوسطى وتونس والجزائر والسودان زمن البشير المخلوع.

ومع كل ذلك تبقى التساؤلات مطروحة: هل ستتمكّن تركيا أردوغان من تحقيق أوهامه؟!

وهل سترضخ القوى الكبرى، وغير الكبرى، لمشيئة واهم، ومسكون بجنون العظمة؟!.