لكل السوريين

التسول.. ظاهرة معقدة وحلولها مستعصية

عبد الرحمن العيسى

المتجوّل في شوارع المدن الكبيرة والعواصم، يلحظ دون عناء كبير ظاهرة ما انفكت تتصاعد وتيرة انتشارها، وهي ظاهرة التسوّل، التي تثير جدلا مجتمعيا عند تناولها بالدرس والتحليل نظرا لأبعادها العائلية والاجتماعية والتي تتعلّق بمجالي التنشئة والتربية الأسرية والمستويات المادية للأفراد والعائلات معا.

من هذا المنطلق وعند تنقلي في الشوارع والأزقة والساحات، ترسّخت لدي فكرة أن التسوّل لم يعد استثناء لضيق ذات اليد والحاجة فقط، بل أضحى ظاهرة مجتمعيّة اكتسبت قواعدها من خلال طبيعة ممارسيها ورؤية المجتمع لها، وغياب التدخل القانوني والمنظومة التشريعية لمعالجتها، فشأنها يشبه كثيرا بقية الظواهر التي لا يمكن القضاء عليها نهائيا لشدّة انتشارها ولصعوبة التصدّي لها نظرا للتعقيدات المجتمعية الحافّة، ومن هذه الظواهر على سبيل الذكر لا الحصر الشعوذة والإدمان والجريمة.

الاعتقاد السائد بأن ظاهرة انتشار المتسوّلين في شوارع وفضاءات المدن الكبيرة يشي بوجود شريحة اجتماعية هشّة ومنبوذة تعيش على هامش البناء المجتمعي، بل يذهب الاعتقاد إلى أنها على هامش كل المعايير والمقاييس التي تؤسس للإنسانية في معناها الشامل. لهذا الرأي ما يبرّره على أساس أن ما يظهر -على الأقل للعين المجردة.

أن المتسوّلين رسّخوا في أذهان الآخرين كل مظاهر الاستعطاف وجلب الاهتمام، من قبيل إهمال المظهر الخارجي إلى درجة قد تبعث على الاشمئزاز؛ ثياب رثة وممزقة، شعر أشعث، أوساخ متراكمة على صفحات الوجوه، نبرات صوت متقطعة، إبراز مبالغ فيه للإحساس بالألم.

السؤال إذن: هل هذه الفئة تتحمّل فعلا كل هذه المعاناة، أم هناك مآرب أخرى؟

تقريبا أتّخذ نفس المسار يوميا في شوارع مدينتي التي أجوبها بسيارتي ولاحظت أنّ تواجد مجموعة من المتسوّلين يتقاسمون التقاطعات على الطرقات، ولست أدري هل هو توافق فيما بينهم أم أن الصدفة لعبت دورها.

فأين نصنّف من يتسوّلون يوميا في نفس المكان ونفس التوقيت، حتى أن المارّين ألفوا وجوههم كما ألفوا أسلوبهم في الاستعطاف.

إذن هناك من المتسوّلين من تدفعهم الحاجة ونخص بالذكر منهم من كانوا يعانون إعاقات ذهنية أو جسدية تجعلهم غير قادرين على الانخراط في الدورة الإنتاجية للمجتمع ولم يجدوا رعاية خاصة سواء من أسرهم أو من منظمات المجتمع الحكومية أو المدنية، يعني من فقدوا سندا عائليا أو اجتماعيا، هؤلاء يمكن أن نجد تبريرا لتسوّلهم.

أما الفئة الثانية فهي التي تسعى بأيسر السبل لتأمين مورد للرزق، تحرص على أن يكون قارّا، ولذلك تتخيّر التقاطعات “المربحة” على الطرقات التي تتواجد في المناطق “الراقية” وتمرّ منها السيارات الفخمة التي لا يبخل أصحابها على المتسوّلين.

بعضهم يتمتع بصحة جيدة وقدرة على العمل ولكنه قد يخترع إعاقة ويدرّب نفسه مرارا وتكرارا على أدائها بنفس تمثيلي مسرحي شديد الخصوصية، يوفّر طاقته ليس في البحث عن عمل بل في الظهور بمظهر صاحب احتياجات خصوصية.

كما يبدو أن بعضهم تجاوز مرحلة الحاجة الملحّة إلى التوفير، ومن القصص التي يتداولها بعض ناشطي وسائط التواصل الاجتماعي أن بعض المتسوّلين يتركون بعد وفاتهم مبالغ مالية هامة جدا يعجز الناس العاديون على توفيرها. بهذا التصنيف يمكن اعتبار التسوّل ظاهرة اجتماعية مرضية تشوّه المظهر العام للمدينة وتعطي انطباعا سيّئا عن طبيعة السلطة والمجتمع اللذين لا يهتمان بالمواطنين واحتياجاتهم النفسية والمادية، وهو رأي مغلوط إذا ما كانت هذه الفئة تصرّ على ممارسة التسوّل.

الملفت للانتباه فعلا ويدفع إلى الحيرة والاستغراب وجود أطفال في عمر الزهور يتسوّلون بمعية ذويهم أو بمفردهم، وفي كلا الحالتين فإن طفولتهم تهتك أستارها وتستباح، لأن زمن دراستهم وتعلّمهم ولهوهم ولعبهم يُستهلك في التسوّل بما يحكم على حياتهم المستقبلية بالعدمية. فبأي الوسائل سيكونون مواطنين مساهمين إيجابيا في مسيرة مجتمعاتهم؟.