على الرغم من مضي الشهر على مجازر الساحل السوري، إلا أن أهالي الساحل السوري لا زالوا لا يستطيعون الخروج من منازلهم خشية البطش بهم مرة أخرى من قبل الفصائل الغير منتظمة، أو من المقاتلين الأجانب الذين ينضرون إليهم نظرة الكفار.
بعد الأحداث الأمنية التي شهدها الساحل السوري في وقت سابق من هذا الشهر، يسيطر الخوف والقلق على أهالي المنطقة، الأمر الذي يجعلهم يلازمون قراهم، لتبقى مناطق الساحل السوي معلقة في انتظار معجزة تعيد الأمان إليهم.
أحداث دامية شهدتها مناطق مختلفة من الساحل السوريّ، ومجازر طائفيّة ضد عائلات بأكملها لمجرّد انتمائها إلى الطائفة العلوية بين السادس والعاشر من آذار الجاري، ترافقت مع شحن طائفيّ واتهامات جمعيّة للطائفة بأكملها، ودعوات للعقاب الجماعيّ الذي هو شكل من أشكال الإبادة والتطهير الطائفيّ، وحملات إنكار وتكذيب أو مقارنات مع جرائم حصلت للسنة سابقًا، واستخدام للذاكرة المؤلمة لمجزرة الكيماوي للتبرير أو التخفيف من هول مجزرة الساحل كما فعلت عائشة الدبس التي نشرت فيديو مجزرة الكيماوي ووصفت المتعاطفين مع ضحايا الساحل بـ “مرهفي الأحاسيس”.
مئات الآلاف من الأفراد باتوا بلا أي مصدر دخل، أي أن الملايين هم من دون معيل حقيقي، وعندما تحاصر أحدا من جميع الاتجاهات وتحشره في الزاوية، فسيقاتل بأسنانه عندما تهجم عليه، إذ سيشعر أنه ليس لديه ما يخسره، قد يكون هناك بعض الفلول المنظمة التي نسقت الهجمات على الأمن العام، وهذا لم يستغرق أكثر من يومين لإخماده، فيما الجزء الأهم والأكبر، هو اضطرار الناس في الساحل للدفاع عن أنفسهم حين رأوا فيديوهات الذبح المنتشرة.
تبرير قتل المدنيين “من أين أتوا بهذا السلاح؟ و”يجب حصر السلاح بيد الدولة” لا يبدو مقنعا، فالسلاح موجود في كل المناطق السورية ، لكن لا يتم النظر إليه على أنه خطر سوى في الساحل، وكأنه لا يشكل أي تهديد في يد الفصائل التي رأينا مجازرها، وكأن السلطة غير معنية سوى بتمشيط المناطق العلوية في الساحل وحمص، أما المناطق الأخرى فهي ليست معنية بحصر السلاح في يد الدولة، وحتى وجود أسلحة فردية لا يعني شيئا عسكريا، هذا يتوضح في اعتراف السلطة نفسها أنه بعد الدعوات إلى الجهاد، انطلق “متحمسون” من مختلف مناطق سوريا للمشاركة في “المعركة” في الساحل، هؤلاء حملوا السلاح الخفيف وانطلقوا، لكن هل تمت مصادرة سلاحهم؟ تفلت السلاح إذا شأن انتقائي، عدم الثقة بالعلويين يعني تحول كل واحد منهم إلى “عدو” محتمل، خصوصا حين نشاهد الصور والفيديوهات التي تنشر بصورة يومية لمخازن السلاح والذخيرة التي تتم مصادرتها من مناطق مختلفة، لكن هل هذا يعني أن كل هذا السلاح هو مخصص للعلويين من أجل القتال؟ ألم يكن من الافضل لهم حمله منذ أول يوم من حملة “تمشيط الساحل”؟ الكثير من الأسئلة يمكن طرحها بخصوص السلاح المتفلت، ودوره وآلية التعامل معه، لكن يبقى الخطر قائما، كون السلاح المتفلت؛ وإن “سحب” من الساحل، فماذا عن باقي المحافظات؟
بعد إعلان انتهاء العملية العسكرية في الساحل، لم تكلف السلطة نفسها عناء تقديم عزاء علني لأهالي الضحايا أو إعلان الحداد، وتحمل المسؤولية كما يقتضي منطق الدولة، أما زيارة المناطق المنكوبة، فاقتصرت على بضع زيارات تبريرية.
يوجد عشرات القرى المنكوبة في الساحل، وآلاف العائلات المتضررة، بسبب سرقة مصادر رزقها ونهبها، أو تعرض معيليها للاعتداء أو القتل، ويظن من يعيش خارج الساحل السوري، أن القتل الطائفي من قبل الفصائل المنضوية تحت راية وزارة الدفاع قد توقف، لكنه تحول إلى نمط آخر هو الخطف والقتل ليلا من دون ضجيج وتصوير، لا شك في أن مسلسل القتل والسرقة والسطو تقف خلفه موجات التحريض وخطاب الكراهية، الذي في كثير من الحالات يكون من قبل الحكومة نفسها.
هناك خيبة أمل لدى كثير من العلويين الذين شاركوا بالثورة السورية وعارضوا الأسد لسنوات من ردود أفعال السوريين على مجازر الساحل كما هو واضح في كلام خالدية الأحمد التي ترى أنه “تم تحميل الضحايا ذنب ما فعله النظام السوري والطائفة الأسدية المحيطة به. وكانوا ضحية التجييش الجهادي السلفي والفكر التكفيري الذي تحمله الإدارة الجديدة وجيشها ومشايخها. لكن الأخطر هو موقف كثير من المثقفين الذين كنّا نظنهم رفقاء ثورة الكرامة والعدالة، وإذا بهم يبررون المجزرة ويتهمون كلّ من يندد بها بالطائفية ويضعونه في خانة الفلول. بالنسبة لي، هذا الخراب يوازي المجزرة”.
وتقول: أهل القرية يعيشون حالياً على مبدأ التكافل الاجتماعي. ففي القرية بيوت بلاستكية مزروعة بالبندورة والخيار والكوسا وغيرها، وبالتالي من يملك خضراوات يوزعها على جيرانه وأقربائه، مع العلم البعض يعتمد على النباتات البرية مثل الهندباء والخبيزة وغيرهما، وهذه لم تعد متاحة بسبب خوف البشر من الخروج الى البرية، وان الناس في ضائقة مالية كبيرة، كذلك لا يستطيعون قبض رواتبهم والمنح المالية المصروفة، لاستحالة الوصول إلى المدينة. وهناك من يصعب عليه شراء ربطة خبز، في غياب أي دخل في الوقت الراهن، أما المواد الأساسية الأخرى، فيوفرها الأهالي عن طرق المساعدات.
اما السيدة نورا من ريف جبلة تقول: ان شبكة الاتصالات وكذلك شبكة الإنترنت ضعيفتان جدا وبالكاد نستطيع التواصل مع الأهل والأصدقاء. أما الكهرباء، فنحصل على ساعة تغذية واحدة في مقابل 12 ساعة من القطع، مضيفة أن مع انقطاع المازوت والغاز، او توفرهما بأسعار عالية، نشعل الحطب من أجل الطبخ والاستحمام، لكن في الحقيقة يوجد غياب الأمان بصورة شبه كاملة، لا يستطيع أحد تجاوز حدود القرية. فالخوف يسيطر على الأهالي، وما زالت فصائل غير منضبطة موجودة في مناطق عدّة، الأمر الذي يثير الرعب بين السكان. وما زالت تردنا أخبار عمليات سرقة ونهب، بالإضافة إلى أخرى تتعلّق بالقتل، وإذا رغب أحد سكان قريتنا في أن يغامر ويتوجه إلى قرية مجاورة لأي سبب، فاحتمالات خطفه أو قتله ما زالت قائمة، وهذا ما يحصل بالفعل، في ظل غياب مؤسسات الدولة، ولا يوجد مخفر للشرطة من أجل تقديم شكوى في حال وقوع مشكلة مع أي شخص من الأهالي، ويوجد حاجزا للأمن العام عند مدخل القرية على طريق بانياس-جبلة من أجل ضبط الأمور ومنع الخطف، ومع ذلك فإن إطلاق نار كثيفا يوميا.
السيد المتقاعد منير من قرى بريف جبلة يقول: إن حالة التوتر دائمة، فالمريض غير قادر على زيارة طبيب بعد وقوع حوادث قتل وخطف على الطرقات المؤدية إلى المدينة. فقد أرعب ذلك الأهالي وجعلهم يلازمون بيوتهم. ومما زاد الطين بلة إغلاق مشفى جبلة في الأيام الماضية، لكنه عاد ليستأنف عمله اليوم، ولو بطاقم صغير، يبقى التساؤل: إلى متى سوف يستمر الوضع على هذه الحال، ويضيف لم توفر أحداث الساحل السوري الأخيرة وتداعياتها أيا كان من أهالي المنطقة، فقد حرم الطلاب الجامعيون من دراستهم، ولم يعودوا للالتحاق بالدوام بسبب التوتر الأمني الحاصل على الطرقات والتخوف من التعرض للخطف، واتخذوا قرار تأجيل دراستهم إلى العام الجامعي المقبل، لعل الوضع يصبح أفضل، الاستفزاز الطائفي دائم في عدد من أحياء المدينة، ولا يمكن التمييز ما بين رجال الأمن العام والفصائل المسلحة، عناصر أحد الحواجز توجه المسبات والشتائم، بعبارات طائفية.
تعاني أحياء في مدينة بانياس ومدينة جبلة وبعض قراهما، من أوضاع خدمية وإنسانية سيئة بعد أن اضطر سكانها للهروب إلى الأحراج والغابات، علها تكون أكثر أمانا بعد المجازر التي ارتكبها عناصر من فصائل غير منضبطين شاركوا في ملاحقة فلول النظام البائد، معظم الناس هربوا من القرى خوفا على أرواحهم، وعندما حصلت إطلاقات نار كثيفة وانتشر خبر بأن المسلحين دخلوا إلى القرى وأحرقوا المحلات والدكاكين والصيدليات وبعض البيوت، وتضاعفت معاناة الناس وتعددت ، بسبب انقطاع الكهرباء والماء مع عدم توفر الأدوية بسبب حرق معظم الصيدليات، وغياب المواد الغذائية مثل الأرز والسكر، والأصعب هو عدم توفر أي وسيلة نقل أو سيارات أو باصات يمكن أن تسعف المصابين أو المرضى في حالة خطرة، لأن معظم السيارات إما مسروقة أو محروقة إلى جوار بيوت أصحابها، وحتى من لديه سيارة يخاف النزول إلى قلب المدينة ، وليس هناك أي ضمانة حقيقية من عدم التعرض للقتل.
الوضع حاليا هادئ نوعا ما مقارنة بالأيام القليلة الماضية، لكن شعور القلق والخوف مازال مسيطرا عليهم ويمنع الكثيرين من العودة للقرية بشكل نهائي، أن قسما منهم لا يزالون في الأحراج القريبة، ولا يجرؤون على العودة لبيوتهم خوفا من هجوم مباغت للفصائل المسلحة خاصة أن هناك فصيلا مسلحا من الأجانب متمركز في مناطق القريبة من قراهم ولا يعرفون متى سيغادر المنطقة، وأنه حتى اليوم لم تصل أي مساعدات تذكر سواء من جمعيات خيرية محلية أو منظمات دولية أو من الحكومة الحالية.