الرقة/ صالح إسماعيل
لطالما شكل وجود الموارد المائية أساساً للاستيطان البشري، والاستقرار في مناطق شمال وشرق سوريا الغنية بالثروات المائية الأساسية لممارسة النشاطات البشرية التي تعتبر الزراعة عامودها الفقري.
وخاصة في سهول شمال وشرق سوريا الواسعة، والغنية بكافة المقومات التي تجعلها كفيلة بوجود نشاط بشري مهم، وملفت للانتباه، كمناطق وادي نهر البليخ، والمصادر المائية الأخرى كالينابيع التي انتشرت في المنطقة منذ ألاف السنين، حيث تنتشر المواقع الأثرية بكثرة في المنطقة دليلاً على تواجدها.
ينابيع معروفة
وكمثال حي على هذه الموارد المائية في مقاطعة كري سبي التي تشتهر بعدد من الينابيع المشهورة كنبع عين العروس الذي يقع بالقرب من مدينة تل أبيض المحتلة حالياً، ويعرف عنه أنه يقع في أرض سهلية خصبة غنية بالينابيع الأخرى كنبع عين الحصان، ونبع صلولع، كما وتتواجد ينابيع أخرى في المنطقة كنبع عين عيسى الذي جف منذ عقود، ونبع في منطقة سلوك المحتلة يعرف بنبع بطيمان لايزال موجوداً الى الآن، وتكثر في محيط المنطقة الصخور الجصية.
وجذبت تربتها الخصبة ومياهها الوفيرة، وموقعها على طريق القوافل التجارية السكان منذ القديم، وعندما تحولت الطرق التجارية عنها تراجعت أهمية هذه المناطق، وأصبحت مناطق يجتاحها المستعمرون من كل حدب وصوب مستغلين هذه الينابيع والمصادر المائية للهيمنة على السكان الأصلين والعمل على غزوهم، وجعلهم يذعنون لهم، بسبب سياساتهم، واستغلال موارد أرزاقهم.
كما وأصبحت الينابيع من أهم المعالم السياحية والاستكشافية في المنطقة حيث هرعت إليه البعثات الأثرية والسياح من كل حدب وصوب لاستمتاع بهذه الينابيع والتعرف عليها عن كثب، حيث زارتها المستكشفة البريطانية أجاثا كريستي مع زوجها المنقب الأثري السير مالون ، واوردتها في إحدى مذكراتها التي عنونتها بعبارة ” تعال قل لي كيف تعيش “، ورد ذكرها في عدد من المراجع والمصادر التاريخية، ومن بينها معجم البلدان ( لياقوت الحموي) حيث كان يطلق عليها ( الذهبانية) وقال عنها:” عين الذهبانية هي عين ماء ينبع منها نهر البليخ من عدة عيون هو أعظمها يقصد ( نبع عين العروس)، وذكرها أيضاً ابن جبير وقال: ( يوجد فيها مشهد مبارك فيه عين جارية لأبينا ابراهيم الخليل، ولسارة متعبداً لها).
نبع عين عيسى التاريخي
ولكن رغم هذا الغنى بالموارد المائية في مدينة تل أبيض وريفها إلا أن عدد منها تعرض للجفاف كنبع عين عيسى الذي جف في نهاية سبعينات القرن العشرين، وكان أساس الاستقرار البشري للمدينة حيث شكلت مياه النبع أساساً للنشاط الزراعي، وجعله مكاناً لاستقرار العشائر التي استقرت حول النبع الذي يقع وسطها حالياً، وتحيط به أحيائها من كافة الجوانب، وكانت تُشكل بحيرة صغيرة وتكاد تُصبح نهراً في المواسم المطيرة، وتجري مياهه بوادي يسمى (السليلة) متجهاً نحو الجنوب الشرقي لتصب في نهر البليخ الذي يبعد ما يقارب الـ 20كم جنوب شرق عين عيسى.
أضافة لما سبق أصبح النبع في مرحلة تمتد من ستينات، وحتى تسعينات القرن العشرين مكاناً للزائرين والتنزه والتبرك، لما انتشر في تلك الفترة من اعتقادات ببركة مياه النبع، والاستشفاء، ونظمت له بيوت الشعر التي وصفت النبع وما حوله. حيث ذكره أحد شعراء قبيلة الفدعان آنذاك:
عين عيسى ما حلا لذة مصيفه زاهي بستانها ويجري نهرها
كما وذكرها الرحالة والعلامة المعروف أحمد وصفي زكريا في كتابه (عشائر الشام)، واصفاً النبع، وطبيعة النشاط البشري للعشائر المتواجدة حول النبع، وساهمت مياه النبع في ذلك الوقت بالنهوض بالواقع المعيشي لقاطنيه حيث كانت تجود الاراضي الزراعية بمحاصيل القمح والشعير والفواكه المختلفة، وازدهرت الزراعة في تلك الفترة الى أن بدأت مياهها بالتقلص بالتدريج ووصولها لمرحلة الجفاف التام كما سبق ذكره.