حلب/ خالد الحسين
يخرجُ من بين أنامل أبو حسن (٤٥عاماً)، وهو من سكان حي العقبة في حلب، أجمل اللوحات الفنية التّراثية، دون الحاجة لاستخدام الفرشاة والأوراق، فهو يفعل ذلك بآلة “النّول”.
ويعرب الرّجل عن حزنه لفقدانه أحد عشر نولاً خلال الحرب، في منازل العائلات التي كانت تعمل معه، “كنت أعتبرها كأبنائي”.
ويعود تاريخ هذه الآلة إلى أكثر من خمسة آلاف عام، إذ وجدت رسومات على معابد الفراعنة، توضح طريقة استخدام النّول في الغزل والنّسيج، ومنذ ذلك الوقت شهدت تطوراً بالتّزامن مع تقدم الصّناعات وظهور ألوان الخيوط.
ومع نزوحه من منزله في عام 2012، بسبب الأحداث السّورية، لم يجد أبو حسن مكاناً يؤويه هو وعائلته وآلاته، لذا لجأ لبناء “بيت شعرٍ” في العراء، وواصل عمله.
وفي كل فترة ومع استمرار الصّراع بين القوات الحكومية والمعارضة، والخطورة وترك عدد كبير من السّكان لمنازلهم، كان يقصد المدينة قاطعاً مسافة طويلة وهو يحمل أعماله ليُصرّفها، حسب أبناءه.
ويقول وهو يستذكر وضعه في تلك الفترة، “وجدت صعوبة في بيعها، لذا عملت حسب التّوصيات”.
وفي 2015 انتقل إلى دكانٍ في حي الفرقان للعيش فيه ومتابعة عمله، ليعود إلى منزله عقب سيطرة القوات الحكومية على المناطق الشّرقية.
ومنذ طفولته شُغِف الرّجل بهذه الحرفة، فهو تربى في عائلة تعمل بها رجالاً ونساءً، “كان العمل مقسماً بيننا، وكُلٌ له دوره”.
وبالرغم من محاولات أبيه الجادة لتعليمه مهنة أخرى، إلا أنه رفض ذلك، واستقل بعمله في سن السّابعة عشرَ، كما يقول لنورث برس.
وبعد شراء صوف الأغنام، تغزله النّساء وتصنع منه الخيطان يدوياً، ثم تصبغنه بألوان مختلفة حسب الطّلب، وبعد ذلك تأتي مرحلة عقد الخيوط وربطها ثم النّسج، حسب الحرفي.
ويتألف النّول البسيط من عدة أقسام وهي “المسند الخلفي ومسند الصّدر، الدرأ، بكرتان يلف عليهما حبل يصل الدّرأتين والدواسات والنّير والمشابك، المشط، المكوك”.
وحسب الحرفي، الذي يجلس أمام الآلة تحيط به قطعٌ تراثية مُتفردة بألوانها ونقوشها، فإن أربعة من أقسام النّول لحمل الأكتاف واثنان مثبتان في الخلف لحمل خشبة مستديرة تمسك بالخيوط أثناء الحياكة (المطواية).
ويشير إلى أنه في ذلك الوقت بدأ بإنتاج رسومات صعبة مثل الرّشواني والبركلي والانطكلي والكردي وغيرها.
وبعد زواجه، زادت المسؤوليات، ما دفع الرّجل لتطوير إنتاجه، ووسع عمله ليشمل عدة أنواع من الأنوال يعمل معه عليها عائلته المكونة من ثلاث فتيات وشابين.
ويشير الرّجل، بملامح مُتعبة وهو يلف الخيط على الآلة بتركيز، إلى أنه زاد من ساعات عمله إلى عشرين ساعة يومياً.
ويعتبر الحرفي أنّ مهنة النّسج على النّول كانت أصعب بكثير في السّابق “كان النّساجون يصنعون خيوط السّدى واللحمة ويصبغونها، الآن الخيوط متوفرة وجاهزة”.
ولا ينكر الأربعيني، الذي مرت عليه حقبة من الزّمن جعلت التّجاعيد تبرز في يديه، أنّ الخيوط الجاهزة أسهمت في “زيادة الإنتاج”.
وبالمقابل يرى أنّ المعامل الحديثة تنتج رسومات وطبعات مختلفة للمفارش والسّجاد، لكنها لا تقارن بالأعمال اليدوية.
ويقول الرّجل وهو يجلس إلى جانب حفيده الذّي يرتدي قبعة شامية وملابس تقليدية ويدير دولاب النّول، “اليدوية تتميز بالدّقة والجمال والمتانة إضافة إلى الخصوصية والتّفرد كونها تجسد روح التّراث، وهي أكثر مقاومة للعث وتشابكاً، على عكس الصَّناعات النَّسيجية الحديثة”.
وكل المقومات التي ذكرت غير موجودة في الصَّناعات الحديثة، حسب رأيه، “لا يمكن لصناعة الآلة مجاراة ما يُصنع باليد”.
وسافر العديد من الشّبان الذين دربهم العجوز على آلة النَّول، خارج البلاد، ولكنه يأمل بجيل جديد يحفظ التّراث، لذا بدأ بتدريب الشباب على هذه الحرفة مجاناً، لأنه يرغب بحمايتها مما وصفه بـ”الاندثار”.
وبنبرة حزينة يذكر، أنّ “بقاء هذه الحرفة التي تناقلها أبي وأجدادي، أضحى تحدياً، لأنها تندر اليوم في ظل التّقدم التّقني”.
ويسعى الرّجل لتطوير مهنته وإدخال إضافات جديدة إليها لتواكب طلب السّوق الدّاخلي، بأسعارٍ تتناسب مع الوضع الرّاهن، “مستقبل المهنة مرهون بمدى إقبال الأجيال الجديدة على الاستمرار بها”.