“القبول” أو “الأبول” هي كلمة عربية (مصدر قبل)، والنساء الحلبيات أطلقنه على يوم في الشهر، يخصصنه لزيارة صديقاتهن، وفيه تقدَم لهن الضيافات المتنوعة، ويطيب للكثير منهن أن يجلبن إحدى الخوجات لإحيائها، ولاسيما إذا ترافق مع حدوث مناسبة كالأفراح والأعياد، وتحتفظ معظم سيدات حلب من الشرائح الميسورة على اختيار صديقاتها في هذا اليوم، فتبادر مجموعة من السيدات، يتشاركن في صفات اجتماعية متقاربة، على توزيع أغلب أيام الشهر فيما بينهن، ولايخفى على أحد مدى نوبات العتاب الأليف الذي سيطال السيدات الغائبات عن الاستقبال.
تتنافس سيدات المجتمع الحلبي في جعل يوم استقبالهن مناسبة زاخرة بالبهجة والرفعة والبهاء، إذ تتقاطع في هذه الأمسية ألوان المرح والتسلية، من خلال الغناء والرقص وتوابعهما، مع تقديم أصناف الضيافة المنظومة، كما تحرص صاحبة الاستقبال على أن تسود النظافة. وتزهو الأناقة في سائر أرجاء المنزل، وتبادر سيدة المنزل إلى تشجيع زوجها وأولادها الشبان إلى الخروج من المنزل، حيث تحثهم على مغادرته في وقت مبكر لئلا يشوب ليلتها أية منغصات، ونجد بعض الرجال يقتنصون هذه الفرصة لارتياد السهرات التي لا يجرؤون على الاقتراب منها في الأيام العادية، على حين يقبع أغلبهم في أماكن قريبة لمعالجة أي أمر طارئ، كنفاد الضيافة، أو ما شابه، نظراً لعدم معرفة صاحبة القبول عدد السيدات المشاركات في استقبالها بصورة مسبقة.
ومن الأمور الطريفة قيام صاحبة الاستقبال بإرسال أبنائها الصغار إلى منازل صديقاتها بغية تذكيرهن بموعد القبول خشية أن يغدو استقبالها على عدد صغير من السيدات، وهذه إشارة غير حميدة قد تسبب لها نوعاً من القلق من الدخول في دائرة الإفلاس الاجتماعي.
لاشك في أن مثل هذه المناسبة تعد ساحة مفتوحة لاستعراض أناقة السيدات، ورفعة أذواقهن في ارتداء آخر ما توصلت دور الأزياء، فضلاً عن سعيهن إلى التفاخر بمكانتهن الاجتماعية، عبر إبرازهن لما يقتنين من مجوهرات جديدة ومصاغ فاخرة، ولا سيما “البغمة” اللولو، و”البروش” الألماس، ناهيك عن تبرجهن وتصفيف شعورهن بما يتناسب مع آخر صيحات الموضة، بالإضافة إلى العطور، ونشير إلى أنَ في تلك الفترة كان العزوف عن ارتداء الحجاب أمراً مألوفاً وسط أفراد هذه الشريحة من المجتمع الحلبي، ومن باب الحشمة قد يضع بعضهن (إيشاربات) على رؤوسهن.
كما أن سهرات الاستقبال تغدو ميداناً رحباً لتقليب البنات، إذ تعمد معظم السيدات إلى اصطحاب بناتهن العازبات، ولا سيما البالغات حديثاً، بغية إثارة شهية الموجودات إلى إطلاق عبارات الإطراء فور وصول تلك الفتيات إلى الاستقبال على غرار “ما شاء الله صارت بنتك صبية”.. “الله مصلي على النبي إيش هالحلاوة”.. “وين كنت مخبيتيها”.. إلخ.
عادة ما يبدأ توافد السيدات إلى القبول بعد أن ينحسر الضجيج في الأحياء الأخرى من المدينة، ونشير إلى أنهن يجلبن معهن في فصل الصيف أحذية ذات كعب عال، يبادرن إلى انتعالها عند الباب قبل الدخول إلى قاعة الاستقبال، وفي أيام الشتاء يخلعن أحذيتهن العادية عند المدخل ويستخدمن بدلاً عنها بوابيج خاصة.
يستمر إيقاع القبول الاحتفالي متوهجاً بكل ما فيه من بهاء إلى ساعة متأخرة من المساء، وفي بعض الأحيان يبقى حافلاً بالبهجة والسرور حتى منتصف الليل، وذلك إذا ترافق وقوعه مع وجود مناسبة سعيدة لصاحبة الاستقبال، وما أكثر تلك المناسبات المبتدعة عند معشر النساء، أو إذا تزامن مع مواسم الأعياد والأفراح، وفي هذه الحالات لا بد من أن تصبح الضيافة أشد سخاء والخوجة أكثر رفعة وشهرة، ومن الأشياء الجميلة الأخرى مسارعة أصحاب السيارات الخاصة إلى توصيل صديقات زوجاتهم إلى منازلهن إثر انفضاض عقد الاستقبال.
من جهة أخرى، نجد أن معظم سهرات القبول تزهو بألوان الطرب والرقص والفرفشة، إذ كثيراً ما تشارك إحدى الخوجات المشهورات في نشر أسباب الفرح والمتعة بين الحاضرات، وثمة من احترف الغناء في تلك السهرات الأنثوية دون مقابل مادي، حيث كن يقمن بتلك المبادرات على نحوَ ودي وطوعي، وتعتبر شكلاً من أشكال الخاطر لصاحبة الاستقبال، منهن السيدة عدوية نجار، والدة الفنانتين: ميادة وفاتن حناوي، والسيدة أم المطرب نور مهنا التي كانت تمتلك صوتاً عذباً، وأداء طربياً متميزاً، فضلا عن السيدة صبيحة مامللي التي كانت تمتلك حضوراً لا فتاً في عالم الاستقبالات والمناسبات، وكان قبولها زاخراً بمشاركة العديد من النسوة اللواتي يتقن العزف والغناء والرقص الشرقي.
وكثيرمن النساء كن يجدن العزف على إحدى الآلات الموسيقية، مثل العود والطبلة والرق.. إلخ، وفئة منهن تمتلك صوتاً طربياً، أو مهارة لافتة في أداء النغمات العذبة، وذلك بالاتكاء على مخزونهن الشعبي من المقامات السمعية المتوارثة، أما إتقان الرقص الشرقي فحدث ولا حرج، إذ يبدو أن هذه السمة تتميز بها أغلب الإناثعلى نحوَ فطري وعفوي في الأمكنة والأزمنة جميعها.
وغالباً ما تضم كل مجموعة سيدة أو أكثر يتحلين بروح الدعابة والمرح، ويمتلكن خبرة ومهارة واسعة في نشر أجواء الفكاهة والبهجة بين الحضور من خلال قدرتهن على التهريج وإلقاء النكات، وفي حال اعتذار إحداهن عن المشاركة، لسبب طارئ، تسعى صاحبة الاستقبال إلى دعوة سيدة أخرى تتمتع بالمواصفات المرحة عينها، ومن الأمور اللافتة التي تتميز بها الاستقبالات، الأحاديث الجانبية التي يغلب عليها سمة النميمة، حيث لا يتعدى حدود المشاركة فيها سوى سيدتين أو ثلاث على أحسن تقدير، وقلما نجد حواراً أو حديثاً تلتف حوله النسوة الموجودات في القبول جميعهن، بل من الطبيعي أن تتعالى الأصوات في كافة الاتجاهات وتتداخل فيما بينها على نحوَ عشوائي.
وصاحبات الاستقبال يعمدن إلى التحضير الجيد لهذه المناسبة حيث يسعين إلى تقديم ضيافة منظومة، تبرز سخائهن ومكانتهن الاجتماعية، وأصناف الضيافة الي توفرها صاحبة الاستقبال هي في العموم جزء من الأطعمة والمأكولات الموجودة والمعروفة في المطبخ الحلبي، وحيث أن نساء حلب يتفنن في صنع الأطعمة وفق ما هو متوافر من منتجات غذائية في كل فصل من فصول السنة، على أنه في الحالات كلها لا غنى عن فنجان القهوةالعربية المغلية، وقطعة من الشوكولا، ولاسيما المحشية منها بالفستق الحلبي أو البندق، وبجوارها يفضل تقديم قرص راحة صغير أو إصبع من هريسة اللوز، أو غريبة استنبولية، وقد يبادر بعضهن إلى تقديم أكثر من هذه الضيافة إثر الفراغ من ارتشاف القهوة، ومن الطبيعي أن نجد تفاوتاً بين سيدة وأخرى، وتقدم السيدات المربيات الحلبية التي توضع في مجاميع خاصة بها، حيث تحمل صينية تضم تلك الأوعية الشاهانية، ثم تقوم بعرضها على ضيفاتها بعد أن تبادر إلى توزيع صحون وشوكات وغيرة من الفضة عليهن.
وفي موسم الصيف، يحلو لسيدات حلب الاستمتاع بأكل البوظة، كما تفضل النسوة تناول المشروبات الباردة، مثل شراب البرتقال، أو الليمون، على أن يكون كوب الشراب مليئاً بقطع الثلج الصغيرة، حيث يحلو للسيدات هزه على نحو متتال قبل تناول رشفات منه، فهذا السلوك يحقق لهن متعة حاسة السمع من جهة، وحاسة التذوق من جهة أخرى، وترافق قطعة من الكاتو صحن البوظة أو كوب الشراب، وربما تبادر بعض السيدات إلى تقديم الهيطلية مع البوظة بحليب، من خلال صحون وملاعق خاصة بها، مصنوعة من الخزف الصيني، ويطيب للنساء في الشتاء تناول الأطعمة المصنوعة من الحليب.
إن مناسبة القبول كانت في تلك الحقبة أشبه بمهرجان أنثوي مبهر كما لو أنه حفل زفاف أنثوي مصغر. وعالم سيدات الطرب ذوات الأصوات الناعمة، والمتمثل بجوقات الطرب النسائية، معروف في حلب باسم “الخوجات”، وغالباً ما تختص تلك الجوقات الطربية بإحياء الأعراس والأفراح النسائية، ومن أهم الخوجات اللواتي نلن شهرة واسعة: المغنية فيروز، وعازفة القانون الزهيراتية، وعلى الطبلة نظلة.