لكل السوريين

“متحف حمص”.. ثراء تاريخي يدل على عراقة المدينة

حمص/ بسام الحمد

شهد متحف حمص منذ افتتاحه إقبالاً كبيراً من الزوار والسياح وأبناء المدينة لأنه يعطي فكرة وافية عن تاريخ مدينة حمص منذ العصور القديمة وصولاً إلى العهد العثماني، وتعكس مقتنياته الثمينة التي عرضت بأسلوب متحفي عصري جوانب غنية من المراحل التي مرت بها هذه المدينة خلال مختلف العصور والأزمان.

ساعد موقع مدينة حمص التي تتوسط سوريا، على بناء وتعاقب عدة مدن قديمة حملت شعلة الحضارة الإنسانية مثل قادش –تل النبي مند–وقطنة– المشرفة حالياً وماريامون -مريمين حالياً- وغيرها.

تشير الكثير من اللقى والمكتشفات الأثرية التي عُثر عليها في أنحاء مختلفة من المدينة إلى أن سكن الإنسان فيها يعود إلى العصر الحجري حيث ترك لنا آثاره وأدواته الحجرية على ضفاف العاصي وفي أماكن متفرقة من أرض هذه المنطقة جُمع بعضها في متاحف دمشق وتدمر وضم متحف حمص بعضها الآخر، ويقع هذا المتحف الذي تم افتتاح مقره الجديد منذ سنوات في شارع شكري القوتلي ضمن مبنى اتخذ الطابع العمراني الفرنسي.

وفكرة تأسيس متحف خاص بمدينة حمص بدأت منذ تأسيس دائرة آثار حمص عام 1972 ولكن التنفيذ الفعلي لها تأخر إلى عام 1974 بعد تجهيز القاعة التي خصصت لذلك وكانت تشغل الدور الأرضي في بناء المركز الثقافي، وباعتبار أنه لم تكن هناك مجموعة خاصة من المعروضات في المتحف فقد تجندت المتاحف السورية لرفد متحف حمص بالقطع الممكنة ومنها متحف دمشق وحلب وحماة وتدمر.

كانت مجموعة المتحف في البداية تضم آثاراً متنوعة من منطقة الجزيرة ودمشق وحلب ثم بعد ذلك ظهرت في المديرية العامة فكرة المتاحف المتخصصة، ولا يعني هذا أن تكون مخصصة لمادة معينة كما هو الحال في دول العالم، ولكن أن تختص كل محافظة بآثارها وتزود الزائر بفكرة عن المراحل التاريخية والأدوات التي استخدمها الإنسان عبر العصور في المحافظة، ومن هنا ظهرت فكرة أن يتخصص هذا المتحف بمحافظة حمص تحديداً وترافق هذا الأمر مع نقل المتحف من مقره القديم إلى مقره الحالي الذي اخُتير له أحد أهم وأجمل الأبنية ذات الطابع الفرنسي كما ذكرنا آنفاً.

وقد بُني هذا المبنى على ثلاث مراحل: الدور الأرضي عام 1929 -الدور الأول عام 1946 م- الدور الثاني عام 1963م ويتميز المبنى بإطلالته المميزة وسط المدينة في أحد أهم شوارعها وكذلك بجمال بوابته الرئيسية التي توحي بالعراقة والفخامة التي امتازت بها المباني التقليدية في حمص.

يتألف المتحف من قاعة واسعة تحتوي خزائنها على آثار متنوعة ومرتبة حسب التسلسل التاريخي بشكل يعطي صورة واضحة عن مختلف مراحل التاريخ التي شهدتها مدينة حمص التي يرقى تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة وتبدأ مجموعة المتحف من عصور ما قبل التاريخ لتنتهي أواخر العصر العثماني، ففي الطابق الأرضي يرى الزائر الكثير من اللقى التي اكتشفت في المواقع الأثرية المعروفة والمجاورة لمدينة حمص التي تقدم لنا نماذج فخارية وبرونزية مما استخدمه الإنسان في الألف الثالث قبل الميلاد، وتفردت تلال بحيرة قطينة وتل الشعيرات بأوانٍ فخارية متنوعة الاستخدام إضافة إلى الأسلحة الفردية ومجموعة من الحلي البرونزية.

وخُصص الدور الأرضي للقطع الحجرية ولوحات الفسيفساء ومن أهمها لوحة اكتشفت في مدينة الرستن (بين حمص وحماة) تمثل نهر العاصي يتهادى على مياهه قارب صغير الحجم يضم أربعة أطفال مجنحون يمثلون إله الحب “كيوبيد” وبرجين يصل بينهما جسر خشبي وعلى جانبيهما مباني المدينة وهناك تمثال بضعف الحجم الطبيعي للإنسان صُنع من الرخام اكتشف في مدينة الرستن أيضاً، ولمدينة تدمر في هذا الجناح النصيب الأوفر فهي الحاضرة الأجمل والأكثر شهرة وقد تم تخصيص ثلاث خزائن للقطع التدمرية تمثل رؤوساً لسيدات ورجال كانت هذه القطع تُنصب فوق القبور.

وفي خزائن أخرى يرى الزائر فؤوساً حجرية ترجع إلى العصر الحجري القديم وأخرى للعصر الحجري الوسيط وتمتاز بتنوعها ودقة صناعتها، كما يرى مجموعة رائعة من الأدوات التي كان الإنسان يستعملها في حياته اليومية في جانبيها المادي والروحي، وتتمثل بأوانٍ فخارية وأباريق وأوعية وصحون وسكاكين عُثر عليها في مقبرة بمنطقة قطينة.

خُصصت عدة خزائن لبعض مكتشفات موقع تل النبي مند وهو تل أثري يقع على مسافة /35/ كم غرب مدينة حمص، وقد اشتُهر هذا التل بالمعركة التي دارت رحاها بين الحثيين القادمين من آسيا الصغرى وفراعنة مصر، كما أشتُهر بأول معاهدة صلح مكتوبة في التاريخ، وقدمت مملكة قادش شواهد ملموسة على تنوع صلاتها الحضارية مع المصريين ومع مملكة أوغاريت على الساحل الشمالي.

وفيه الكثير من القطع التي اكتشفت في تل النبي مند ومنها أباريق وكؤوس وأساور برونزية ومشابك للثياب ومسلات وهناك جرة من الفخار المدهون من نوع (فخار سوسة) تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد لذلك عرضت في خزانة منفردة، وفي هذا إشارة واضحة إلى عمق الصلات الحضارية التي كانت تربط المشرق العربي بالمغرب، وإلى جانبها خزانة أخرى احتوت على ثلاث جرار كان القدماء يستعملونها لدفن موتاهم وهي من نوع الفخار الحموي وتعود إلى الألف الأول قبل الميلاد وقد رسمت عليها خطوط للماء والجبال والعقارب.

وخُصصت خزائن أخرى لأدوات الطبخ والاستعمالات اليومية مثل الفناجين والصحون والأباريق والقدور والأسرجة التي كانت تستخدم في الإضاءة وتمثل عهوداً مختلفة وأماكن متعددة، ويرى الزائر أيضاً خزانة تضم أختاماً اسطوانية مع طبعاتها تعود للألف الثاني قبل الميلاد وخزانة للنقود البرونزية والفضية والذهبية عُثر عليها ضمن مدينة حمص وتعود إلى العهود البيزنطية والعربية الإسلامية.

وفي ردهات المتحف يرى الزائر منحوتة من الحجر الكلسي الأبيض تمثل رأس سبع عُثر عليه في قلعة حمص ومنحوتة أخرى تمثل مذبح معبد الشمس الكبير الذي انتقلت عبادته إلى روما في عهد الإمبراطور “سبتيم سيفيروس” زوج الإمبراطورة الحمصية “جوليا دومنا” وثمة خزانة وحيدة خُصصت لمصحفين وكتاب تفسير للعلامة الحمصي زكريا الأنصاري. إضافة إلى ذلك يضم المتحف تمثالاً لربة الجمال “فينوس” تم اكتشافه منذ أشهر، ويحتوي المتحف أيضاً على عامود من الرخام يعود إلى العصر الإسلامي عليه نقوش لرسمين سلطانيين.