لكل السوريين

القدود والموشحات والمواويل الحلبية من أشهر الألوان الغنائية وأعرقها في سوريا

حلب/ خالد الحسين

تعتبر مدينة حلب من المدن السورية المشهورة بالغناء والطرب فلا يكاد يخلو بيت حلبي من ألة موسيقية أو مطرب ومغني، فهم فنانون بطبعهم وقد اشتهروا منذ أقدم الأزمنة بهيامهم بالأصوات الجميلة وبشغفهم بالموسيقا حتى أصبحت مدينتهم مركز إشعاع للفنون الموسيقية وما زالت.

يقول الباحث “حسن تركماني “حول مكانة مدينة حلب في مجال الطرب والفن الأصيل: “حلب هي مدينة الطرب والفن الأصيل والسبب الأهم في مكانتها المتميزة في هذا المجال كما يقول بعض المؤرخين هو مركزها الجغرافي حيث كانت مركز اتصال بين الشرق والغرب فقبل فتح قناة السويس كانت حلب محط رحال التجار والسياح من أعاجم وترك وتتر وأرمن وكانت بذلك نقطة اتصال بين مختلف الشعوب والأمم وكانت التواشيح العربية تترجم إلى اللغتين الفارسية والتركية وبالعكس.

ومن أشكال التراث الغنائي الحلبي “الموشح”، الذي ما زال سكان حلب يعدونه أرقى أنواع المؤلفات الغنائية ويحافظون على موروثهم منه ويحرص مطربوها ومنشدوها على حفظه وغنائه في جميع احتفالياتهم ضمن وصلات تتضمن أربعة موشحات كحد أدنى

والغناء ممتزج بالنفس منذ خلق الإنسان على الأرض لأنه تطهير لآلامه فيحن إليه في ساعات صبوته، وتراث العرب حافل بهذا اللون من الفن فمن يتصفح كتاب الأغاني لـ”أبي الفرج الأصفهاني” يقرأ أخبار الغناء في العصور السالفة حيث كانت القصور تموج بأمثال “الموصلي” و”ابن سريح” و”دنانير” وغيرهم وكانت المنتزهات ملهى النفوس ومستراح الأبدان”.

وحول أشهر أعلام الموسيقا في مدينة حلب يقول تركماني: “اشتهرت حلب بولعها بالغناء وإحياء الموشحات والقدود وكان من بين روادها “محمد خيري” 1935 -1981 ومن أعلام “حلب” في الموسيقا والغناء “أحمد عقيل” 1813 -1913 و”عمر البطش” 1885 -1950 و”علي الدرويش” 1884 -1952 و”توفيق الصباغ” 1892 -1964 و”أحمد الأوبري” 1895 -1952 و”كميل شمبير” 1892 -1934 و”بكري الكردي” 1909 -1978 و”فؤاد حسون” 1911 -1971 و”مجدي العقيلي” 1917 -1983 و”سامي الشوا” 1889 -1975″.

ويختم الأستاذ “تركماني: “لقد كانت مدينة حلب منذ القرن التاسع عشر مركز إشعاع للموسيقا وفنونها وموطن رجالها الذين نالوا شهرة كبيرة في سائر البلدان العربية وكان المطربون المشهورون الذين يؤمون حلب لإسماع فنهم يشعرون برهبة ورجفة لأنّ أهالي حلب عُرفوا بدقتهم لكل ما يسمعونه وبمرافقتهم المطرب في إيقاعه الموسيقي حتى إذا خرج عن سير الميزان سطروا عليه زلة فنية لا تغتفر، وحلب أيضاً مدينة عامرة بالموسيقيين والمغنين فكلما انطلق وتر في دنيا العرب حضر إلى حلب ليحصل على ثناء أهلها وإذا كان ذلك انطلق إلى مسارح الطرب فقد حضر إليها كل من “سيد درويش” و”صالح عبد الحي” و”محمد عبد الوهاب”.

يتحدث الموسيقي الشاب “محمد حلاق” عن أهمية الطرب الحلبي وعراقته ومورداً رأي سيدة الغناء العربي “أم كلثوم” في أهل “حلب” الذي يعشق الموسيقا، حيث قالت “أم كلثوم”: «إنّ أهل “حلب” ذوو آذان موسيقية سليمة تميز النغم الصحيح من النشاز فهم فنيون بالفطرة يصغون إصغاءً تاماً للصوت الرخيم واللحن الجميل والأداء المتقن وقد أطلقت حلب نوابغ الموسيقا من أمثال “كميل شمبير” والشيخ “علي الدرويش” و”سامي الشوا”، وقد رافقني “سامي” كثيراً بعزفه على كمانه المبدعة فكنت أظنه أحياناً يردد صوتي بواسطة قوسه وأوتاره فأعتز بمهارته وأشعر بموجة من الخشوع تغمرني عندما أسمعه يعزف الآذان الكريم: /الله اكبر الله اكبر، حي على الصلاة/، وإني لأذكر جيداً أنّ كثيراً من الحلبيين كانوا يتكبدون مشقات السفر ويأتون من الشهباء إلى هنا أي إلى مصر ليحضروا حفلاتي الشهرية وكنت ألمح في عيونهم وأنا على المسرح وقلوبهم وآذانهم معي وأنهم أكثر الحاضرين تأثراً بنشوة الصوت والموسيقا والإيقاع».

وحول أشكال التراث الغنائي الحلبي يقول حلاق : «من أشكال التراث الغنائي الحلبي “الموشح”، الذي ما زال سكان “حلب” يعدونه أرقى أنواع المؤلفات الغنائية ويحافظون على موروثهم منه ويحرص مطربوها ومنشدوها على حفظه وغنائه في جميع احتفالياتهم ضمن وصلات تتضمن أربعة موشحات كحد أدنى

وحول تعريف “الموشح” يقول: «”الموشح” من الناحية الموسيقية هو وحسب ما جاء في كتاب /من كنوزنا/ للدكتور “فؤاد رجائي آغا القلعة” -1955 “انتقلت موسيقا “الأندلس” إلى المشرق فتعشق المشارقة موسيقا الموشحات لكنهم لم يغنوها بطريقة نظمها بل اكتفوا بطريقة غنائها فقطّعوا الإيقاع الموسيقي على الشعر وعلى الأزجال فجعلوا البيت الأول بمثابة قفل الموشح وأسموه دوراً وعدوا الثاني بمثابة بيت الموشح وسموه خانة وأطلقوا على البيت الأخير غطاء وقد يعددون في الأدوار والخانات، وساروا على نفس طريقة تلحين الموشحات الأندلسية ولكن بتلوين بين المقامات، ولي أن أضيف إلى الكلام السابق بأنّ “الموشح” هو نص لحني على شعر في الغالب أو زجل يمتاز لحنه بجودة الصياغة وجزالة الجمل الموسيقية مع حسن ترابط بينها ولحمة لحنية متينة إضافةً إلى انسجام الجمل اللحنية مع وحدات الإيقاع الذي يكون في الغالب من النوع الأعرج مهما كان عدد وحداته.

وهناك “الموشح الديني” التوشيح حيث درج المطربون والملحنون والمنشدون الدينيون على إطلاق هذا الاسم على الموشح ذي المعاني الدينية وقد يصنفون فهذا ابتهال أو استغاثة إن كان في معانيه دعاء للرب وتعداد نعمه وذاك مديح أو مدحة لموشح احتوت معانيه تعداد صفات النبي الأعظم أو ذكر لسيرته ومعجزاته، وتوسل عندما يتوسلون أويرجون شفاعته لدى الله سبحانه، ومحفوظ المنشدين في “حلب” من هذا اللون كثير منه القديم والحديث مجهول اللحن أو معروفة».

ويتابع متحدثاً عن مميزات التواشيح الحلبية بالقول: «التواشيح الحلبية التي ما زالت محفوظة والتي يعود تاريخها إلى القرنين السابقين تتميز بأنها خالية من الارتجال المرسل بل ملتزم بإيقاع التوشيح الرئيسي، وبالنسبة للحنها فهو غالباً متواصل دون تقطيع إلى أجزاء ويتعمد على ردود متعددة يتخللها جمل لحنية هي بمثابة الارتجال رغم أنها ملحنة كنقطة ارتكاز لكن المنشد الفنان يستطيع أن يطورها وتتميز بالتنقل بين المقامات والإيقاعات ونستطيع القول أنها توليفة بين قالبين تلحينيين القصيدة والدور، ومن مميزات التواشيح الحلبية أيضاً التزامها غالباً إيقاع الواحدة الكبيرة في البداية والملحن حر بعد ذلك فقد يغير إلى إيقاع نصف الواحدة أو المقسوم أو اليوروك إذ لا قاعدة تحده يعود بعدها اللحن إلى الإيقاع الأول لينتهي بها.

ومن أشكال التراث الغنائي الحلبي “القصيدة” وهي لحن على شعر فصيح يُنشد أو يُغنى ارتجالاً حتى الآن إلى جانب قصائد أخرى صيغ لها لحن مستقر وهي في الحالة هذه تشبه الموشح لولا اختلاف النهج وأسلوب التأليف إضافة إلى اختلافهما في الإيقاع الذي يكون في الموشح في الغالب طويلاً أو أعرج أو مركباً على إيقاع التفعيلات العروضية لبحر شعر النص بينما في القصيدة الملحنة تأخذ منحى السهولة في الإيقاعات، والقصيدة تُنتقى من قصائد الغزل الرفيع ويشترطون فيها أن تكون ذات ألفاظ رقيقة ومعان مؤثرة، كما أنّ غناء القصيدة ارتجالاً هو من أصعب الألوان الغنائية وأبدعها فهو يحتاج إلى فصاحة لسان وسلامة إعراب ومخزون لحني وأدبي هائل وذوق رفيع في التلوين والانتقال بين المقامات.

أما “الموال الحلبي” فقد اشتهر شهرة بالغة نظراً لطريقة غنائه وترتيب جمله اللحنية وأسلوب استخدام المقام والألحان المميزة الشائعة والمعروفة التي صاغها المطرب الحلبي أو المنشد ارتجالاً منذ فترة طويلة وفي جميع المقامات المتداولة وتميزه هذا جعله محبوباً ورمزاً وشعاراً لمدينة حلب، وسُمي الموال بأسماء كثيرة منها سبعاوي و بغدادي ونعماني وسواها، أما الموال السبعاوي الحلبي فمؤلف من سبعة أبيات على البحر البسيط وباللهجة المحكية التي سادت مدينة “حلب” قبل أكثر من مائة عام».

ويتحدث “حلاق” عن “القدود الحلبية” ونشأتها قائلاً: «من منطلق القول المأثور لكل مقام مقال حار القس السرياني “مار أفرام” 306 ميلادي وتساءل: ما بال هؤلاء الناس في حلب يأتون إلى الكنيسة أحداً وينقطعون عنها آحاداً؟ فلأصنع لهم عملاً يحبونه ويأتون من أجله إليّ وراح يبحث عن أحب الأشياء إليهم واكتشفه دون عناء طويل إنه الغناء إنها الأغاني الشعبية التي يرددونها في أعيادهم واحتفالاتهم وحين تمعّن في ألفاظها ومعانيها لم يرها مناسبة ليتغنوا بها أمام محراب الرب وهنا خطر على باله أن يأخذ اللحن الذي يحفظونه جيداً وعمد إلى النص فغيّره إلى كلام ديني منظوم على أعاريضه وجعل يردده الناس ورواد الكنيسة، يأخذون النص الجديد ويغنون باللحن المألوف لديهم وهكذا عُرف أقدم قدّ في حلب.

القدّ في اللغة هو القامة أو القطع أو المقدار واصطلاحاً هو أن تصنع شيئاً على مقدار شيء آخر كان تأخذ نصا شعرياً مغنى أو لحناً آلياً وتصنع على نص الأول أو لحن وإيقاع الثاني ما يوافقهما والقد الحلبي قد يكون له معنى آخر أو بالأحرى اسم يطلق على لون من ألوان الغناء وقالب للتأليف الغنائي الحلبي فهناك من قال بأنه موشح من الدرجة الثانية إذ أن “الموشح” أرقى صنعة وأعلى صياغة وأشد ترابطاً وأمتن تأليفاً وأكثر تعقيداً من حيث إيقاعاته كل هذا من الناحية الموسيقية واللحنية، أما من حيث النص الشعري فالقد والموشح صنوان فأنت ترى شعراً رائع الألفاظ ورفيع المعاني وشائق التراكيب وجميل المحتوى وسهل المتناول ولا يصعب غناؤه على الجماهير إذ هم يلتقطون ألفاظه ولحنه دون حِرفيّة من يريد حفظ “الموشح” وإيقاعه، بمعنى أننا هنا أما مسميين لشكل واحد من أشكال الغناء في “حلب”».