تمتلك سوريا التي تعد أحد أبرز بلاد الشام العشرات من القلاع والمواقع الأثرية التاريخية التي تعود لعصور خلت، لتصبح الحضارات المتعاقبة والآثار الباقية إلى يومنا هذا شاهداً على تاريخها القديم وجذورها الممتدة إلى حقب تاريخية تعود إلى قبل الميلاد وحتى عصرنا الحالي.
فسوريا الواقعة في غرب القارة الآسيوية تصنف كأحد المناطق الخصبة، فيما تحدها من الجنوب المملكة الأردنية الهاشمية، ومن الشرق الجمهورية العربية العراقية، ومن الشمال الجمهورية التركية، أما من الغرب فتحدها فلسطين ولبنان. وتنبع أهميتها من موقعها الجغرافي الاستراتيجي وامتلاكها لآثار تشمل غالبية الحضارات البشرية كـ “الصليبيّة، والأيوبيّة، والمملوكيّة، والأسبارتية، والعثمانية” حيث تتميّز هذه الآثار ببناء معماري مذهل.
عند الحديث عن قلعة “المضيق” الواقعة على تل مرتفع في الجهة الشرقية من سهل الغاب في ريف حماة الشمالي الغربي في سهل الغاب الذي يمر منه نهر العاصي بالقرب من مدينة أفاميا الأثرية وهي تابعة إداريا إلى محافظة حماة في سوريا، كما لا تزال عامرة بالسكان حتى يومنا هذا وقامت بجانبها بلدة تحمل الاسم نفسه، نقف أمام معلم تاريخي أثري تمتد جذروه إلى آلاف السنوات هي “قلعة المضيق” وسميت هكذا لأنها تطل على مضيق يقع بين التل الذي بنيت عليه وجبل شحشبو الذي يقابله.
ودلت المسوحات الأثرية والتنقيبات التي جرت في قلعة المضيق وبعد دراسة الطبقات والسويات الأثرية بأنها تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد، إذ كانت عبارة عن قرية صغيرة تدعى “فرنكة”.
لمحة تاريخية
يقول مدير الآثار في محافظة إدلب شمالي سوريا أيمن النابو: “في الفترة اليونانية، وفي عهد اسكندر المقدوني استخدم الأخير قلعة المضيق، لتكون قاعدة حربية لجنوده، حيث وضع فيها أكثر من 300 فيل و500 حصان بسبب كثرة الحقول الخصبة حولها حسب العديد من المصادر والمراجع، قبل أن يستمر في الفتوحات نحو بلاد فارس”.
ثم أخذت اسمها “أفاميا” بعد وفاة المقدوني، وتقاسم تركته من قبل الحاكم الجديد وبقية القيادات، فكانت القلعة من نصيب سلوقس نيكاتور، وسميت بعدها باسم زوجة الحاكم “أباميا”.
بعد ذلك انتقلت دفة السيطرة على قلعة المضيق إلى الرومان عام64 ق.م ثم البيزنطيين، ثم فتحها العرب المسلمون عام 638 ميلادي، حيث اهتموا بتشييد الحصون وتدشينها مع الثغور، ليقوم بعدها نور الدين الزنكي بترميم القلعة بعد تعرضها لزلزال قوي مع تدعيم الأسوار العباسية. واستمرت أهمية القلعة حتى الفترة العثمانية، ولكنها بدأت تدريجيا تفقد زخمها العسكري الذي عايشته سابقا، ولكن رغم ذلك لم ينقطع عنها الاستيطان السكاني حتى يومنا هذا، كما مر حكم القلعة على الأيوبيين والمماليك من بعدهم.
متحف مذهل
نلاحظ معاصرة قلعة المضيق لحقب تاريخية عديدة مرت على مواقع أفاميا الأثرية التي تحتوي متحفاً خاصاً غنياً باللوحات الفسيفسائية، إذ كان يحتفظ فيه باللوحات المكتشفة حديثاً وهو عبارة عن خان عثماني يعود إلى عهد السلطان سليمان القانوني في أوساط القرن السادس عشر الميلادي، حيث كانت مهمته استقبال الحجاج على طريق الحج، بالإضافة إلى الوظيفة التجارية والتبادل.
كما أن المتحف يحتوي على لوحات فسيفسائية بالغة الجمال كلوحة الفيلسوف اليوناني سقراط، وأخرى تعود لحوريات البحر في مسابقة للجمال تحت نظر إله البحر.
حتى عام 2011 كانت أفاميا حسب مدير آثار محافظة إدلب أيمن النابو، من أجمل المواقع الأثرية في الشرق الأوسط عموماً وفي سوريا على وجه التحديد، وكانت تؤمها المجموعات السياحية من كافة دول العالم، وما زالت تظهر فيها آثار المسرح والشارع المستقيم، علاوة على المتحف الذي يحوي لوحات فسيفسائية نادرة جداً.
البنية العامة
يحيط بالقلعة، وفق العديد من المصادر، سور مرتفع مضلع وله أبراج مربعة الشكل كما كان حولها خندق تملؤه مياه نهر العاصي عندما تتعرض القلعة للهجوم. يظهر على باب القلعة المقنطر اسم الملك الناصر يوسف حفيد الملك الظاهر غازي وتاريخ 654هـ. كما أن الأبراج تحمل اسم الملك الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين الأيوبي وعليها تاريخ 602هـ.
وفي عهد السلطان سليمان القانوني الأول تم بناء مسجد، ومدرسة وخان، الذي هو الآن عبارة عن متحف أفاميا للفسيفساء، ويتبع للمديرية العامة للآثار والمتاحف التي تنظم رحلات دورية للموقع الأثري والمتحف، والجدير بالذكر أن مدينة أفاميا تحتوي على مسرح، يعتبر من أكبر المسارح الرومانية الموجود في سوريا.
المدخل: ويقع في الجهة الجنوبية، بين برجي حماية، ويقود إلى بوابة ذات طراز عربي أيوبي في غاية الجمال، توصل إلى داخل القلعة عبر ممر ذي سقف معقود مبني من الحجر المنحوت.
الأسوار: تحيط بقمة المرتفع، ويبلغ قطرها الوسطي حوالي 300 متر، ما يعطي القلعة شكلاً صليبياً واسعاً من الغرب وضيقاً من الشرق، وهي مبنية من الحجر الكلسي المنحوت والضخم، وتتداخل الأسوار مع الأبراج بقوة وتترابط فيما بينها، وللقلعة تسعة عشر برجا تتميز بضخامتها وقوة تحصيناتها، إلا أن أبراج الجهة الغربية، أقل عددا وأصغر حجما حيث أن مرامي السهام المنتشرة على الأسوار تؤمن الحماية الكاملة من هذه الجهة مع المنحدر. أما سفوح التل، فهي شديدة الانحدار ومزودة بتصفيح حجري لتوفير الحماية المطلوبة للقلعة.
تم الاعتماد في بناء الأسوار على الحجر الكلسي المشغول والضخم، حيث تصل هذه الأسوار بين الأبراج وتتداخل معها بشكل قوي ومتين، ومع مرور الزمن فقد زال جزءٌ من هذه الأسوار، نتيجة لتعديات السكن في الفترات اللاحقة، على القلعة، ونتيجة للانهيارات الناتجة عن الإهمال والعوامل الجوية.
الأقبية: تحوي القلعة من الداخل عددا من الأقبية القديمة الأيوبية والعثمانية، وقد قامت مديرية الآثار مؤخرا باستملاك أبنية الأهالي الحديثة داخل القلعة تمهيدا لإنجاز أعمال الترميم والتأهيل في واحد من المعالم التاريخية والسياحية الهامة في سوريا.
التاريخ الحديث
انضم سكان قلعة المضيق إلى الحراك الشعبي في سوريا المطالب بإسقاط النظام في ربيع عام 2011 حيث رد جيش النظام المخلوع بحملات أمنية ومداهمات. وهنا يذكر المصدر المسؤول، أن رئيس فرع الأمن العسكري في المنطقة فاوض سكان قلعة المضيق والمناطق المجاورة لها، طالباً منهم التوقف عن المظاهرات الشعبية مقابل اعطائهم فسحة في التنقيب والبحث في المواقع الأثرية!
بعد ذلك، بدأت أعمال التخريب العشوائية ضد أحد أقدم المواقع التاريخية في المنطقة، التي كان سببها النظام السوري بالطريقتين المباشرة وغير المباشرة وفق النابو، وتمركزت قواته في أعلى مواقعها، وقام بنصب حاجز يدعى “حاجر الآثار”.
لكنه لم يتدخل يوماً في منع عمليات التنقيب العشوائية على الآثار ذات القيمة الباهظة تاريخيا، وإنما كان يتعامل مع هؤلاء اللصوص ويؤمن لهم الحماية، مقابل الحصول على جزء من الغنائم الأثرية.
وشجع النظام السوري البائد على الحفريات ودعم اللصوص والباحثين عن الآثار، من خلال إرسال تجار لتدعيم هذه الأعمال لتشويه الثورة الشعبية، وعلى أرض الواقع كانت الدلالات معاكسة تماماً، بل عندما نشر جنوده في المواقع الأثرية، فهو كان قد اخترق القوانين الدولية التي وقعت عليها سوريا بشأن زج الجيش في المواقع ذات الأصول التاريخية والأثرية الهامة.
تخريب ومحاولات لحماية القلعة
بعد الحالة العامة من عمليات التخريب التي نشرها النظام السوري في المجتمع المحلي بعد الثورة السورية، لم ينج متر واحد من قلعة المضيق الأثرية من أعمال التنقيب والتخريب.
أما فيما يخص المتحف الأثري فيها، فقد نجحت المعارضة السورية-وفق مدير آثار محافظة إدلب – في الحفاظ عليه من خلال منع قوات النظام من دخول القلعة، ثم استطاعت المجموعات الفنية المعنية من الدخول إليها بالتعاون مع المجلس المحلي القائم فيها، وإجراء وتنفيذ مشروع من أجل حماية اللوحات الفسيفسائية فيه خلال عام 2016 وترميم الأماكن التي تعرضت لقصف النظام، وتجهيزها بأكياس لمنع تعرضها للدمار حال تعرضها لأعمال عسكرية.
ثم بقيت قلعة المضيق في حالة أمان حتى عام 2019 حيث تمت المحافظة على كافة مقتنياته ما عدا قطعة واحدة، دارت الشبهات حول أحد الموظفين بإخراجها من المتحف.
حرب جديدة
قبل أيام دخلت قوات النظام السوري بدعم من الجيش الروسي المساند للأسد إلى قلعة المضيق وسط سوريا، فيما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الصور تبين دخول تلك القوات، علماً أنه قبل دخول جيش النظام إلى القلعة، كانت المواقع المذكورة محمية من التخريب، ثم يتوجب علينا الانتظار لبرهة لتبيان ما نتج عن تدخل النظام عسكرياً.
كما ظهر العميد سهيل الحسن داخل قلعة المضيق، ليلقي كلمة مصورة، ويوجه رسائل الشكر والامتنان للجيش الروسي الذي ساعدهم في دخول القلعة، وتحييد المعارضة السورية عنها.
مسار للتهجير
أهالي العديد من المدن والبلدات السورية كـ “داريا، والمعضمية، وقدسيا، والهامة، والتل، وخان الشيح وزاكية” مرّوا من منطقة قلعة المضيق إحدى خواصر منطقة الغاب، بدءا من تهجير أهالي مدينة داريا في آب 2016 وصولًا لآخر دفعة من مقاتلي ومدنيي مدينة التل في ريف دمشق.
وحوّل النظام السوري وفق موقع “عنب بلدي” في عمليات التهجير التي اتبعها في الأشهر الأخيرة من العام الماضي 2016 بلدة قلعة المضيق إلى مركز فاصل لتجميع المهجرين قبيل دخولهم مدينة إدلب وريفها.
وجاء الاعتماد على هذه البلدة في عمليات التهجير وإخلاء المناطق بعد أشهر قليلة من إعلان النظام فتح طريق السقيلبية القلعة في آذار 2016 بعدما قطع آنذاك جراء الاشتباكات التي دارت في المنطقة.
كما اعتمدت الأمم المتحدة والهلال الأحمر الطريق الواصل إلى البلدة، لإدخال المساعدات الإنسانية ونقل الجرحى والأسرى، من وإلى المنطقة.
عملية دخول المهجرين إلى البلدة تتم وفق المصدر، عبر المعبر الجنوبي للقلعة الأثرية التي تسيطر عليها قوات الأسد، ليتم بعدها إيصالهم للجزء الشمالي منها الذي يخضع لسيطرة الفصائل العسكرية المعارضة.
فضلاً عن اعتبار قلعة المضيق معبراً تجارياً، فقد اعتمدت كمعبر بشري للمهجّرين من محيط العاصمة دمشق، وكذلك اعتمدتها المنظمات الدولية كنقطة عبور للقوافل الإنسانية التي تحمل المواد الغذائية والطبية، وتنقل الجرحى. كذلك هي نقطة لتهريب المطلوبين للنظام القادمين من مناطق سيطرته، إذ يتولى عناصر “الدفاع الوطني” نقل المطلوبين وإيصالهم إلى آخر حاجز للنظام بالقرب من البلدة، مقابل مبالغ تصل حتى 1600 دولار، ومنها إلى المناطق المحررة.
ويمكننا في الختام القول: سوريا التي دخلت حرباً طاحنةً طيلة السنوات الماضية، أكلت فيها النيران والخلافات كل معالم الحياة البشرية انتهاء بالتاريخ الأثري العظيم في العشرات من مواقعها التاريخية، إذ لم ينج الإنسان السوري من تداعيات الاقتتال والتسلط على السلطة والبنيان وفرض الحكم بالقوة، فيما يبقى حكم تلك المواقع الشاهدة على أصالة التاريخ السوري تحت ظلال الأقوى عسكرياً، ويبقى مستقبلها مرهونا بما ستؤول إليه الأوضاع السياسية في نهاية المطاف.