في أزقة دمشق القديمة، ما زال صوت “القبقاب” الخشبي يرتطم بأرضيات الحمامات والبيوت الطينية، كصدى خافت لماضٍ كان فيه هذا النعل رمزًا للنظافة، والتراث، وأسلوب حياةٍ كامل.
لكن، وكما كثير من الحِرف الدمشقية العريقة، توشك صناعة القباقيب على الانقراض، في ظل زحف الصناعات الحديثة، وتبدّل أنماط العيش، واختفاء مَن يتقنون هذه الحرفة.
من مجدٍ عريق إلى أربعة ورش فقط
حتى منتصف القرن العشرين، كانت أكثر من 200 ورشة منتشرة في أسواق دمشق، تختص بصناعة وبيع القباقيب، التي كانت تُلبَس في البيوت، الحمامات، وأماكن الوضوء في المساجد.
اليوم، لم يتبقَ منها سوى أربع ورش فقط، يعمل فيها حرفيون شيوخ تجاوزوا العقد الخامس أو السادس من أعمارهم، دون تلاميذ يرثون هذا الفن.
“هذه المهنة تعيش أيامها الأخيرة، لا أحد من الشباب يتعلمها لأنها لم تعد مربحة، والطلب ضعيف”،
هكذا يقول أحد أقدم الصنّاع، الذي فضل عدم ذكر اسمه، لكنه أصرّ على أن “القبقاب ليس مجرد نعل… بل شخصية وصوت وهوية”.
التهديد الأكبر: البلاستيك والحداثة
تواجه صناعة القباقيب منافسة غير عادلة من النعال المطاطية والبلاستيكية، التي اجتاحت الأسواق برخص أسعارها وخفة وزنها وسهولة توفرها.
أما العمارة الحديثة، حيث الشقق فوق بعضها والجدران الرقيقة، فلم تعد تتسامح مع الصوت المميز للقبقاب، بل باتت تعتبره مصدر إزعاج.
محاولات تطوير متواضعة لإنقاذ القبقاب
حاول بعض الحرفيين تحديث القبقاب بما يناسب العصر، فأضافوا إليه طبقة مطاطية لتخفيف الضوضاء، وغلفوه بمواد مقاومة للرطوبة، بل إن البعض صنعه كلياً من البلاستيك والمطاط.
كما صُممت نسخ ملوّنة ومزركشة لجذب الأطفال واليافعين، لكن هذا لم يكن كافيًا لإنعاش السوق.
الحمام الدمشقي… آخر معاقل القبقاب
في بعض الحمامات العامة، مثل حمام السوق في دمشق، لا تزال القباقيب مستخدمة.
يقول السيد بسام كبب، أحد أشهر أصحاب الحمامات:
“القبقاب عملي جدًا في الحمام، يرفع القدم عن البلل، ويمنع الانزلاق، ويحافظ على أصالة الجو الدمشقي. لا يمكن تصور حمام شرقي بدونه”.
الدراما السورية أنقذت القبقاب مؤقتاً
بفضل الأعمال الدرامية السورية، خصوصاً مسلسلات البيئة الشامية، عاد القبقاب إلى الواجهة ولو شكليًا.
شخصية “غوار الطوشة” التي أداها الفنان الكبير دريد لحام، ارتبطت بالقبقاب، حيث تحوّل إلى رمز شعبي ساخر في الأفلام والمسرحيات، وترك أثرًا لا يُنسى في ذاكرة ملايين العرب.
القبقاب… مفيد للصحة والبيئة أيضًا
على عكس النعال الحديثة، يرى أطباء أن القبقاب الخشبي صحي أكثر:
يسمح للقدم بالتنفس
يقلل من التعرق والرطوبة
يمنع الحساسية والتسلخات
أما بيئيًا، فهو منتج طبيعي 100%، يتحلل في الطبيعة دون تلويثها، عكس النعال المطاطية والبلاستيكية التي تظل مئات السنين دون أن تتحلل.
حرفة تُنسى… وهوية تنطفئ
القبقاب اليوم ليس مجرد نعل خشبي يُطرَق في الأزقة، بل رمز لذاكرة دمشقية، يختزل في صوته حكايات الأجداد، وجمالية الحياة البسيطة، ونظافة الأيدي التي نحتت الخشب بإتقان.
اندثار هذه الصناعة لا يعني فقط فقدان منتج، بل فقدان هوية ثقافية وصوتٍ من أصوات المدينة.