لكل السوريين

رجاء النقّاش.. مسيرة أدبية حافلة

انشغل الناقد المبدع رجاء النقاش في كتابته وحتى في حياته اليومية بالأسئلة الوجودية الكبرى عن السعادة والرضا والتناغم في هذا العالم، ولو أن أحداً التفت إلى تدوين ما يقوله لخرج بكنز من الأفكار والرؤى الثاقبة والحكمة المغلقة بحزن شفيف، لأن الخلل القائم في هذه الدنيا بين الأقوياء والضعفاء يلوح كأنه قدر لشدّة ثباته.

كانت صحبته لكل الذين عرفوه متعة فكرية وإنسانية بالغة الرقي ونادرة، ومدرسته النقدية كان قوامها هو اكتشاف المناطق المخفية في النص واضاءتها من الجوانب كافة حتى يصبح النص النقدي إبداعاً يُطاول الإبداع المدروس. فقد نفر رجاء من تعقيد لغة النقد وتحويلها إلى لوغاريتمات وأحاجي تعزل كل من النقد والإبداع، وطالما قرأ الأعمال بروح محبة.

جاء رجاء النقاش ليضع الوردة في مكانها ويسلّط عليها الأضواء من كل جانب فتزداد جمالاً وجلالاً وروعةً ثم يبدأ في رسم ملامحها ظلاً فظلاً.. ثم ينتقل بين ألوانها الزاهية ويعرضها ويجمّلها بكل الحب.. وإذا أردت أن تعرف ذلك كلّه، اقرأ نصاً أدبياً مع نفسك أولاً ثم اقرأ النص نفسه بعيون رجاء النقّاش وسوف تدرك حجم ما أضاف رجاء للنص وصاحبه.

إنَّ رجاء النقّاش لم يعرفُ في حياته غير الحب.. ومن هذا المنطلق كانت كتاباته. إنه عاشق للتراث، ولذلك غاص فيه إلى أبعد مدى .

وقد أدخل النقاش إلى الأدب السيرة المبتكرة، مازجاً بين رحلة الحياة ورحلة الفكر، وحتى تقلبات هذا الفكر في الأعمال التي أنجزها وفي سيرة الذين اختارهم وكانوا محظوظين لأنه كتب عنهم.

كان رجاء النقاش بمثابة “طوق نجاة”، وهو من النقاد المهمومين باكتشاف الموهوبين وحمايتهم والدفاع عنهم. فرجاء النقاش يستحق لقب ناقد بامتياز، وأعتقد إنَّ أهم مقياس هو البحث عن الإنسانية في العمل الفني، وهو نفسه “عمل فني” وميزته أن علاقته بالمبدعين لم تكن علاقة ناقد بمنقود أو استاذ بتلاميذ، ولكنها علاقة حبيب بمحبوب، وكان بينه وبين من يكتب عنهم غراماً حقيقياً، فهو يُسعد بالشخص الموهوب ويشعره بذلك ولا يمن على أحد بشيء. إنّه بالفعل بمثابة “طوق نجاة” لكثير ممن عرفوه، يكفي طريقة ترحيبه بالمبدع الجديد وكأنه مشروع لمبدع كبير، وعندما يكتشف فيه شيئاً جديداً لا يكف عن الدفاع عنه ويتحوّل إلى صديق له على الفور، وسبق أن اكتشف الشاعر الفلسطيني المبدع محمود درويش، وأول من بشرنا بالروائي السوداني الطيب صالح، وأوّل من قدم لنا الديوان المخطوط للشاعرة المصرية التي انطفأت قبل الأوان ناهد طه عبد البر، وغيرهم من المبدعين الكبار الذين حلقوا فيما بعد في عالم الأدب والشعر فكانت لهم مكانتهم وأسمهم وتاريخهم الذي علق بأذهان القراء وما زال.

فالنقد عملية إبداعية مضاعفة، لأن النقد ليس عملية تحليل وتقويم للعمل فحسب ولكنه محاولة لإغواء القارئ المتلقي وإقناعه بوجود عناصر جديدة داخل العمل لم يلتفت إليها أحد وهذا إبداع في حد ذاته، لأنك لن تسطيع إغرائي واقناعي بشيء ما لم تكن مبدعاً عظيماً، وهذا ما كنا نتلمسه لدى النقاش.

لقد وقف رجاء النقاش بإجلال واحترام أمام طه حسين الطفل الضرير الفقير الذي ارتفع فوق عذابه وقاد المصريين والعرب جميعاً إلى النور. وأمام العقاد الذي حرمه الفقر من التعليم المنظم، لكنه أوتي من الإرادة ومن الكبرياء ما صار به الشاعر العبقري والكاتب الجبار. كما وقف أمام عبد الحميد الديب الشاعر الموهوب والصعلوك البائس، ووقف أمام تولستوي الذي منحه الله الموهبة وجمال العقل والشعور، لكنه كان دميماً إلى الحد الذي دفعه وهو شاب إلى التفكير في الانتحار.

وفي صورة فريدة قرأتها مع الراحل الكبير رجاء النقاش عندما كان رئيساً لتحرير مجلة “الدوحة” القطرية في عام 1982 عندما اتصلت عليه في مكان إقامته في الدوحة، وكنت حينها في الصف العاشر الثانوي، وأبدى إعجاباً لما أرسلت للمجلة من مادة صحافية، عن “الرَّقة.. مدينة الرشيد التي تغنَّى بها الشعراء”، وهو المثقف الكبير الذي لا يشق له غبار، فرحّب ترحيباً شديداً بما أرسلت، ونشره في العدد الذي تلى اتصالي معه، وكان على علاقة طيبة مع الأديب الراحل عبد السلام العجيلي الذي كان يُغني المجلة بمواده المتميزة شهرياً التي تطرب لها القلوب قبل العقول.

فرجاء النقاش، ومن خلال حديثه المقتضب معه، عبر الهاتف في تلك الفترة، فإنه كان دمث الخلق، ومثال في الطيبة والتواضع، رغم علو مكانته الثقافية، فهو يبادرك بحديثه اللين، وبأسلوبه البسيط بعيداً عن التعالي والأستذة والكبرياء الذي نراه اليوم مغروساً في أصغر صحافي متطفل لا يعرف ألف باء الصحافة!.

إنَّ رجاء النقّاش، وإن كان من عامّة المثقفين، فإنه كان من ألمعهم علماً وثقافة، فضلاً عن تواضعه الجمّ وحبّه للآخرين.

رجاء النقاش خلق ليحب ويكتب. أعني لينتصر للخير والعدل والجمال والحرية. فالحب هو مفتاح المعرفة بالنسبة له وهذا هو الطريق سار عليه ونجح فيه.

 

عبد الكريم البليخ