لكل السوريين

مكتبة “بور سعيد” في الرَّقة “داعش” حوّلها إلى أنقاض وأبرز روّادها العجيلي

أحمد الخابور، ارتبط اسمه بمدينة الرَّقة السورية، كما هو حال أديبها الراحل الدكتور عبد السلام العُجيلي، وشاعرها الآثاري مصطفى الحسّون طيّب الله ثراه. هو ذاك الرجل الذي أسّس لمكتبة الخابور “بور سعيد”، وهجها ومكانتها في فكر وقلب ابن الرَّقة.

مكتبة الخابور، وعلى الرغم من تواضعها وبساطتها، ظلّت لها ذكريات مفرحة وعبق ماضٍ متجدد، وتاريخ حافل ومكانة في قلوب أبناء الرّقة المعاصرين على مدى أكثر من ستين عاماً ونيّف، إلى أن هجم “داعش” على المدينة، وأفرغها من الكتب وقام بإحراقها جميعها بعد سيطرته على الرّقة ربيع عام 2013، وبقي الخابور يمارس عمله فيها بهدوئه ورزانته المعتادين.

وأوّل ذكرياتنا عنها كانت قبل أكثر من أربعين عاماً عندما كنا أطفالاً صغاراً، بعمر الورود، كانت تشدنا تلك المكتبة التي عرفناها منذ ذلك الوقت، وعمرها الفعلي قبل ذلك بكثير..

العودة إلى تلك الأيام الخوالي، يعني أننا نقرأ فيها تاريخ مدينة، ومدى ارتباطها بهذه المكتبة، وصاحبها أحمد الخابور، “أبو زهرة”، وهو الاسم المتداول، والمعروف به كصاحب مكتبة لها اسمها وتاريخها ومكانتها لدى النخبة من مثقفي وعاشقي الحرف في “درّة الفرات”، وعُرف بعد ذلك باسم أبو المهند، نسبة إلى ابنه البكر، الشاعر الشعبي مهند الخابور الذي ترك بصمة، وأخذ من أبيه صفات تجلت في صوغه الشعر بقالب وأسلوب جميل ولافت.

أحمد الخابور، تلك القامة الرقية المثقفة التي تظل لها وهجها ومكانتها وزهوها، في قلب ووجدان كل من التقى به وعرفه عن كثب.

وخلال اتصالي به منذ فترة قريبة حاولت أن أصغي إلى حديثه المفعم بالمحبّة والشوق.. أخذ يذكرني بالزمن الماضي. زمن مضى عليه حوالي عشر سنوات، وأنا بعيد عن الرّقة، وكأن حشرجة صوته تعيدني إلى يوم أن التقيت به ولأوّل مرّة في مكتبته المتواضعة قبل نحو خمسة وأربعين عاماً عندما كنت طالباً في الصف السابع الاعدادي.

كنت أهوى اقتناء الصحف الرسمية، وأفضل قراءتها بشوق شديد، وكنت الوقت بانتظار شركة الكرنك للنقل في حينها التي كانت تجلب معها الصحف الصادرة يومياً من دمشق التي كانت تصلها مساء، فضلاً عن انتظاري لها في أيام الشتاء وبرده القارس، وكنت استمتع بذلك جداً.

تحدّث معي بكل لطف، كما هي عادته. والمودة التي كان يخفيها عني ويحتفظ بها لنفسه تجاهي. خجلت من نفسي وفرحت في الوقت ذاته وتمنيت أن يطول حديثه معي أكثر فأكثر، لكني شعرت أنه في حالة تستدعي منه المكوث إلى الراحة بعض الشيء. وأشار لي من خلال الصورة التي رسمتها ذاكرتي عن مدى عشقه وحبّه للّرّقة، وللثقافة التي تحوّلت في الأيام الحالية، كما يؤكد، إلى لعبة طاولة الزهر بعد أن فعلت بعض العصابات فعلتها وأحرقت مكتبته بما تحتوي من كتب التي عرفها أبناء الرّقة المثقفين ولمّت شملهم، والتي يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة وستين عاماً.. ورغم عودتها للحياة من جديد إلّا أنه ما زال يمارس دوره فيها على أكمل وجه، ليس حبّاً بالمال، وإنما من أجل عشقه لهذا التاريخ، ولكرسي المكتبة الخشبي الذي يحتفظ به إلى اليوم، ويذكره بالأديب الراحل الطبيب عبد السلام العجيلي الذي كان يجلس عليه أثناء زيارته المتكرّرة للمكتبة، والتي لم يعد لها أي مكانة بعد رحيله بنظر الخابور، الذي كان يحترم العجيلي، وهو أيقونة الرّقة التي افتقدها أهلها، وسيظل كذلك منارة لا يمكن لها أن تنطفئ.

الخابور، رغم تواضعه الجمّ، فهو إنسان مثقف وموهوب بسعة اطلاعه، وله علاقاته الاجتماعية مع الكثير من أبناء الرّقة، من أطباء، ومهندسين، وكتّاب، وصحافيين، وفنانين تشكيليين، ورجال مال، ووجوه عشائر، وأصحاب نفوذ.. وله أسلوبه الخاص في تعامله مع هذه الشرائح مجتمعة، بفن وحكمة.

فهو يغنيك بحديثه المشوّق، وباسلوبه السلس، ويرشدك إلى غايتك بطريقة فيها الكثير من الإبهار، أضف إلى أنّه يمتلك صورة ثقافية عميقة، والسبب في ذلك مدى تعاطيه مع شرائح المجتمع “الرقّاوي” المثقف، وبمختلف فئاته.

وإذا ما أردنا أن نبحث عن المدرسة التي نهل منها “أبو زهرة”، فهي مدرسة الحياة والمجتمع، ولم تتعد الصفوف الدراسية الأولى، ولكن علاقاته الواسعة مع مختلف شرائح المجتمع، وكبار شخصيات الرّقة ووجهائها وشبابها المثقف، وبصورةٍ دائمة ويومية، جعلت منه إنساناً أكثر وعياً، وتجربة عميقة ذات بعد ثقافي، ومبحرة في عالم ما زال الكثير من أبناء جيله، وللأسف، ضعيف الرؤية، غير قادر على محاكاة الغير إلاّ بأفق ضيّق جداً.

إنَّ مكتبة الخابور كانت محور لقاء كان وما زال يضمّ أكثر المهتمين بالشأن الثقافي، وكان من أميز المثقفين الذين يترددون عليها، وطالما جلس داخلها، أو جاء من أجل شراء بعض الصحف والمجلات، الدكتور عبد السلام العجيلي، رحمه الله، فهو ابن المحافظة الغني عن التعريف، كما سبقه إلى ذلك الآثاري الراحل مصطفى الحسّون، وتبعهما جيل آخر من المثقفين، من أبناء الرّقة، وكان لقاءَهما الوحيد في مكتبة الخابور، التي كانت تعقد فيها جلسات حوارية مطوّلة لها أوّل وليس لها آخر.

هكذا كان.. واستمر في استقطاب كل من يجد في نفسه القراءة، ليس محبةً في المال وإنما هو الحب المجبول بالمعرفة الذي كان يحاول أن يصل به إلى شرائح المتعلّمين الهواة الراغبين في اكتساب المعرفة أولاً من أبناء بلدته.

ويصرّ الخابور على إبقائه مهمّشاً، برغم العوَز وضعف المورد الأساس من عائدات المكتبة، من توزيع الصحف وبيع المجلات والكتب، وإنما وجودها مجرد ديوانية، وجلسة حوارية جماعية، والتي تعتبر رمزاً لمثقفي مدينة الرّقة، وكتّابها وصحافيها، بصورةٍ خاصة، الهدف منها سرد الحكايات، ومعرفة الأخبار، والوقوف على كل ما هو جديد في الرّقة، وما يدور في أذهان أبنائها، ومن هنا ظلّت مكتبة أبو المهند اسماً على مسمّى، فهي تشكل منتدى ثقافياً اجتماعياً متأصّلاً.

يقول أحمد الخابور: “عمر المكتبة الحالي أكثر من ستين عاماً، وأنا من أنصار السلم العالمي، وأكره الحروب”. والحروب، كما يؤكد، “نتيجتها الخراب والدمار والتشرّد”. وهذا ما حصل بالفعل بالرّقة وبأهلها.

وأضاف: “مكتبتي الصغيرة تمثّل مركزاً ثقافياً مصغّراً، وكان من أبرز روّادها الطبيب الأديب عبد السلام العجيلي”.

وعن تضييق الخناق الذي مارسه عليه عناصر الدولة الإسلامية “داعش”، الذين سبق لهم أن زاروا المكتبة، في أكثر من مرة، وعيونهم على محتوياتها، قال: “قالوا لي بالحرف الواحد، هذا المكان لا يدخله الرحمن، والكتب شبيهة بالكفرة، ونريد التخلّص منها”. وقال لهم بدوره: “خذوا ما يلزمكم واحرقوا البقية منها.. فسوريا حرقت جميعها فأنا لن “أزعل” على حرقكم الكتب”.

وعن مدى حبّه وولائه للمكتبة والكتب، قال: “أنا جزء من المكتبة، ومن الصعب أن أتنازل عنها. المكان جزء من تكويني، وأنا لا تهمني الكتب بقدر ما يهمني المكان والروّاد والأصدقاء الذين أحبّهم وأعشقهم، وهم في المقابل يُحبونني.. وسبق وأن زارني عدد كبير منهم، وقالوا لي بالحرف الواحد: عندما تعود المكتبة إلى الحياة هذا يعني أنَّ الرَّقة تحرّرت”.

وطلب صاحب مكتبة بور سعيد، دفنه تحت أنقاضها. بقوله: “وبدلاً من دفني في المقابر أفضل دفني هنا”. ويشير إلى حيث بقايا مكتبته التي سويت مع الأرض.

شاخ صاحب مكتبة بور سعيد مع مرور الوقت، وها هو اليوم يحتفي بقراء النخبة من مثقفي الرّقة الذين احتضنهم يوماً، والذي عايشهم صغاراً، وهاهم اليوم أصبحوا من كبار الكتّاب والصحافيين والأطباء والمهندسين والفنانين والمثقفين.

عبد الكريم البليخ