لكل السوريين

قرى الجرنيّةمسكونة بالعطش .. وأراضيها خصبة ولا تستصلح!!

ثمّة مفارقة صارخة تكاد لا تُصدق، ولايتقبّلها العقل، وهي: لماذا تُهمل عشرات الآلاف من الهكتارات الزراعية الخِصبة، التي تُجاور بحيرة الأسد دون ري واستصلاح، على الرغم من مرور نحو خمسة عقود، على بدء عمليات الاستصلاح وري الأراضي في حوض الفرات، وبقاء أهلها الذين يصل تعدادهم اليوم إلى أكثر من خمسين ألف نسمة، قابعين في قراهم المتناثرة، على الضفاف، والجوار دون مورد رزقٍ حقيقي يعينهم على العيش والاستقرار؟!.

حينما تصل المنطقة، وتستقبلك عشرات القرى المتناثرة على طول الشاطئ، يتبادر إلى الذهن العديد من الأسئلة، وأوّلها هو: كيف يعيش أهالي هذه القرى؟ وسلسلة لا تنتهي من الأسئلة، لا بد أن تتوقف أمام العديد من المفردات: البحيرة، الحرم، الضفاف، السهول، المعاناة، الانتظار، الهجرة، الأمل، الحقوق، الواقع، الظروف، الإمكانيات، التفجّر السكّاني، الموارد والجدوى، والمردود الاقتصادي، الثروات، الإنتاج، الأنشطة الاقتصادية المرافقة، المعدلات، التكاليف، البنى الاجتماعية، مكافحة البطالة، التنمية، الحرمان، المسؤولية، الواجب الأخلاقي، الشاطئ، وغيره من مفردات تتقاطع في نسيج كثيف لتلقي بظلالها على الواقع بكل أبعاده، وتمزج بين تراكم المياه، واتساع السهول، وتناثر السواعد، وصرخة الحرمان، والحاجة، والخصب، والانتظار، لترسم لوحةً نافرةً باهتة الملامح!

تمتاز أراضي الجَرنيّة السهلية، باتساعها، وقربها من البحيرة، مما يُسهم في تخفيض كلف الاستصلاح، ومن فواقد المياه، وأن معظم قاطني المنطقة من المغمورين، ومن ذوي الخبرات الزراعية، وبقاءَهم حالياً دون مورد رزق، والجدوى الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، للمشروع كبيرة وكبيرة جداً بالنسبة للأهالي وللوطن عموماً، ولا يقارن بغيره من المشاريع الأخرى التي نفّذت، أو ما زالت قيد التنفيذ، والتي يتم نقل المياه إليها لمسافة تصل إلى 130 كم، ومن المفارقات في بعض ما نفّذ من مشاريع استصلاح وريّ في أراضي شرقي مدينة الرّقة، والتي كان معظمها مروياً بواسطة محركات من نهر الفرات .. ومن مساوئ تنفيذ بعض هذه المشاريع الفاقد الكبير جداً في المياه، وعدم جدوى ذلك بالنسبة للفلاحين، مثل اقتطاع مساحات كبيرة للمصارف والمراوي تمثل20% من هذه المساحات، وتسديد رسوم استصلاح باهضة، عدا ما تُسدّده مؤسسة الاستصلاح لقاء فوات المواسم لأصحاب الأراضي، والذي بلغ مئات الملايين من الليرات السورية !

تُحيط البحيرة سهول ناحية الجرنية بشكل هلالي من جهتي الغرب والجنوب، وبطول أكثر من 70  كم يتعانق على طول ضفافها الماء، والصحراء في مشهد عبثي غريب، وتتناثر حول هذا الامتداد أعداد كبيرة من القرى المهجورة، تبعث في النفس مزيداً من الأسى والألم، ويتوسط الموقع امتدادات سهلية خصيبة من كل الاتجاهات، ويقسمها الطريق الواصل مابين الرّقة والجرنية إلى قسمين، حيث يكتسب كل منهما اسمه من امتداد الجهة الجغرافية التي يقع فيها، وهما:

الجرنية الجنوبية: وتمتد جنوباً حتى الضفاف الشمالية للبحيرة بعمق أكثر من25  كم، وطول أكثر من 30 كم، وهذه امتداداتها السهلية تتميّز بالاتساع والخصوبة، ممّا يوفّر الإمكانية بالبدء بمشروع استصلاح معطيات مهمّة كقربها من البحيرة، وإمكانية ريّها، وقلّة المسافة لأقنية استجرار المياه، وانعدام العوائق الطبيعية، مما يساعد على تحويل هذه السهول القاحلة الجرداء إلى موارد إنتاجية تُساهم في تعزيز واستقرار وتطوير الواقع الاجتماعي في منطقة ما تزال تعتمدُ على الزراعات البعلية، وتربية بدائية للماشية، أو بالهجرة إلى مواقع العمل في المدن والمشاريع المستصلحة البعيدة، أو بالاغتراب خارج القطر للبحث عن فرص للعمل، مما أضفى على هذه المنطقة طابع عدم الاستقرار السكّاني، رغم تخديمها بالمدارس، ومياه الشرب، والكهرباء، فبدت مهجورة !

اعترى بعض قرى المنطقة الإهمال، والخراب، مثل قرى:( ابتيت، النجمة، بصراوي، ثلاث خراب، بير التيس، المنده، الملكد، العطشانة، المهنّاوي، دخان، صفيّط، هدّاج، بير الحمَام، بير سنْجار، الجدي، أبو الشامات، شهيد الله، الخفي، بير سخْني، حزوْم، السهلة، واسطة الغمر، طويحينة، أبو صخرة، المحمودلي، الذيبة، بير المراد، وعددٍ آخر من التجمّعات الصغيرة، وتصل مساحة هذا المسطح السهلي حوالي 35 ألف هكتار، ويعيش فيها أكثر من 25 ألف نسمة ويتفرّع عنه، من الطرف الغربي، امتداد آخر تتناثر فيه عدد من القرى .. كالكجّي التي تمتد حتى جنوب قرية طويحينةـ حلاوة، وضفاف البحيرة وبمساحة تصل إلى حوالي 10 هكتار، ويُعاني جميع هؤلاء السكان من شظف العيش، والانتظار بسبب عدم معالجة ظروفهم ومعاناتهم  القاسية.

الجرنية الشمالية: وهذه تشتمل على الامتدادات الواسعة التي تندفع باتجاه شرق وشمال الجرنيّة، وتتناثر فيها عشرات القرى مثل الخاتونية، ومشرفة، وشمس الدين وغيرها وتبلغ مساحتها حوالي 20 هكتار ويقطنها حوالي 20 ألف نسمة من ذات الشرائح السكانية التي سبق الحديث عنها.

وقد انتشرت بعض المشاريع الزراعية الخاصة “المرخصة لبعض المزارعين” في الجهة الشرقية من الجرنية الجنوبية، التي تتميّز بارتفاع معدلات الإنتاج، ولكنها لم تحقّق الاستقرار المنشود لضعف إمكانات الأفراد، وبعض المشاريع الزراعية الخاصة في الجهة الشمالية من الجرنية، حيث اتسمت بمعدلاتها الإنتاجية المرتفعة بالنسبة للمحاصيل الاستراتيجية، وحازت على جائزة التفوّق الإنتاجي في أحد الأعوام، ومع ذلك لم تحقّق الجدوى المطلوبة.

قام فلاحو حرم البحيرة بزراعة بساتين الزيتون تحت ظروف المنع، والتوقيف، والمصادرة للآليات، وبالرغم من ذلك، تمكن هؤلاء من مواصلة تخديم وريّ أشجارهم المزروعة، ووصلت إلى الطور التبشيري والإنتاجي، وبمعدلات مواصفات قياسية من الجودة والنقاء،  حيث بلغت أعداد أشجار الزيتون، ما نسبته 40% من مجموع أشجار الزيتون المزروعة في الرقّة، إضافةً لبعض الأنواع الشجرية الأخرى، ومن هنا تنبع أهمية الانطلاق لمشروع استصلاح متعدّد الجوانب لما يُشكّله من خطوةٍ وطنية، وإنتاجية مسؤولة، وحل لمعاناة طال انتظار أصحابها، وطال حرمانهم، وبما يُشكل مساهمةً كبيرةً في تحقيق النقلة الحضارية التي سوف تُسهم في تحقيق الاستقرار والإنتاجية، وتحويل هذه المنطقةـ شبه الجرداء ـ إلى مواقع مهمّة للعمل، والظلال، والخضرة، ولما ستحقّقه من تحويلها إلى مستودع إنتاجي للأمن الغذائي، والاكتفاء الذاتي، وتوظيف للأيدي العاملة، ومكافحة البطالة، وتحقيق التنمية الاجتماعية، والاقتصادية، في زمن أصبح فيه مفهوم التنمية والأمن الغذائي واحداً من المنطلقات الأساسية لبلدنا، ولما يُشكّله من أرضية لتحقيق الاستقرار.

لقد كان الهدف من إقامة سد الفرات، وإنشاء هذا المسطح المائي العظيم المتمثل في البحيرة أن يرافقه استصلاح640 ألف هكتار، ولكن إلى الآن لم يتم استصلاح أكثر من خمس المخطّط وريّه، واستصلاحه، ألا يحقّ لنا أن نتساءل: من المسؤول عن هذا التقصير وإضاعة حقوق الأفراد والدولة؟! ولماذا حرمان سهول الضفّة اليسرى لبحيرة الأسد من الريّ والاستصلاح؟! مع أن المياه قد استجرت لمسافات تصل إلى مئات الكيلومترات شرقاً وغرباً لتروي مساحات صغيرة إذا ما قورنت بسهول الجرنية الواسعة، ولأجزاء بعضها كان مروياً بالأساس، ولم تنشأ عن تلك المشاريع التفاعلات الاقتصادية المرافقة والمحقّقة لتعدّد موارد الدخل من حيث الاهتمام بـ: تربية الماشية، زراعة الأشجار، تحقيق الأرضية السياحية، ما قد ينشأ عن ذلك من صناعات زراعية تقوم على ذلك لو تم استصلاح وري أراضي الجرنية! وتبقى الجدوى الاقتصادية من إرواء سهول الجرنية تتمثّل في ريّ عشرات آلاف الهكتارات، وتوفير الاستقرار السكّاني لأكثر من خمسين ألف نسمة، وتنظيم وخدمة وري تسعة آلاف هكتار من بساتين الزيتون، والأشجار المثمرة في حرم البحيرة، وتحقيق الأنشطة الاقتصادية، والتفاعلات الأكيدة الناجمة عن ذلك، وهي: تربية الماشية في الهضاب المتاخمة لهذا المشروع، والتي تستوعب لقطيع يتجاوز عدده مئات الآلاف من رؤوس الأغنام، والاهتمام بتربية وتطوير الثروة السمكية، كإنشاء أحواض خاصة لتربية الأسماك على أطراف البحيرة، والصناعات الغذائية التي يمكن أن تقوم بعد إنجاز هذا المشروع، وتشجيع السياحة في تلك المنطقة الغنية بآثارها، وأيضاً، المساهمة في تحسين الظروف البيئية.

الجدير ذكره أن الحكومة كانت قد وجهت باستصلاح 70 ألف هكتار جديدة في حوض الفرات.

فهل يتمُّ تخصيص أهالي قرى الجرنيّة، المسكونة بالعطش، باقتطاع قسم من هذه الأراضي التي سيتمّ استصلاحها مستقبلاً، لتبقيهم متشبّثين في أراضيهم، بدلاً من طابع الهجرة الذي كان له أثره المباشر على سكّانها ما دفع أغلبهم للهجرة وترك أراضيهم غير المستثمرة والتي كما قلنا تحتاج إلى من يهتم بها ويراعي ظروف أهالي المنطقة الذين يعيشون على القلة، بهدف استقطابهم، بدلاً من البحث عن الهجرة وتركها مهملة..

 

عبد الكريم البليخ