لكل السوريين

السلطة الرابعة.. من البحث عن المتاعب.. إلى مواجهة السجون والقتل

تقرير/ لطفي توفيق

تمتلك وسائل الإعلام قدرة هائلة على تغيير المجتمعات إذا اتيح لها اختيار موضوعاتها، والوصول إليها، وحرية التعبير عنها بكل جرأة ومصداقية.

ويكمن جوهر التغيير بتوفير المعلومات الصحيحة لاتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، يما يتيح للأفراد معرفة حقيقية بقدراتهم اللازمة لتغيير واقعهم، تقرير مصيرهم.

وتلعب هذه الوسائل دوراً حاسماً في تغيير المجتمع من خلال إعادة تحديد بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذا تمتعت بالحرية والاستقلالية اللازمتين للقيام بدورها.

ويساهم التطور المذهل لوسائل الاتصال في هذا العصر، بسرعة وصول المعلومة إلى كافة الجهات دون المرور على مقصات الرقابة التقليدية، وعلى مخافر قمع الفكر، وتشوية الثقافات المنتشرة في معظم البلدان.

ولعل سرعة انتشار خبر إقدام محمد البوعزيزي في تونس على إضرام النار بنفسه، عن طريق  الهواتف المحمولة المتطورة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات التلفزيونية الفضائية، خير مثال على قوة التغيير التي يمكن أن تنتج عن التفاعل بين حداثة وسائل الإعلام، وبين رغبة الراغبين بتغيير أوضاعهم الاجتماعية والسياسية.

وبغض النظر عن النتائج التي آلت إليها الانتفاضات التي فجّرها انتشار خبر إضرام البوعزيزي النار بنفسه، يبقى انتشار الخبر بهذه السرعة المحرك الرئيسي لهذه الانتفاضات، ويبقى دليلاً واضحاً على  أهمية دور الوسائل الحديثة في خدمة الإعلام، وتمكينه من القيام بدوره التغييري.

ولكن مقصات الرقابة، ومخافر القمع سخّرت الوسائل الحديثة لصالحا بجدارة أكبر، فهي تملك كل مقومات نجاحها من أدوت القمع والمال والسلطة والزنازين.

ولذلك ما تزال حرية الإعلام تشهد انتكاسات متوالية لم تسلم منها حتى الدول التي تصف نقسها بالديمقراطية، وما يزال الصحفيون يتعرضون في كل بقاع العالم لانتهاكات متعددة تعرّض حياتهم للخطر، ويذهب بعضهم ضحية إصراره على ممارسة مهنته بأمانة واستقلالية.

ويضيف تصاعد التعصب والتوجهات الشعبوية، والفساد، والجريمة من الخطر المحدق بالصحفيين في مختلف أرجاء العالم.

ظواهر إيجابية

سرعة انتشار خبر البوعزيزي بواسطة تكنولوجيا التواصل ووسائل الإعلام الحديثة، شكلت بداية لحركة جماهيرية جديدة أسفرت عن رحيل نظام الحكم التونسي.

وامتدت هذه الظاهرة إلى مناطق أخرى من العالم، حيث قام الشباب فيها بدور مهم وفعّال، مستخدمين وسائل الإعلام الاجتماعية الحديثة.

وفي مصر استخدمت هذه الوسائل بنجاح خلال الحركة الاحتجاجية ضد النظام المصري السابق، كما فعل الشاب وائل غنيم الذي نظّم حملة على “فيس بوك” عنوانها “كلنا خالد سعيد”، في إشارة إلى المواطن المصري الذي اعتقل وعذب حتى الموت أثناء اعتقاله.

ووصل عدد المشاركين في هذه الحملة إلى أكثر من مليون مؤيد لها، وصارت صفحة الشاب من المنابر التي استخدمها المحتجون للتنديد بممارسات النظام وقمعه للحريات.

وفي بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية انتشرت حركة “تعالوا نحتل” واستمدت قوتها مما ترتكز عليه من أفكار، ومن احتلالها للساحات والأماكن العامة.

والأهم من خلال تواجدها بموقع بارز في عدة وسائل إعلام اجتماعية حديثة.

وبذلك أسهمت هذه الوسائل في إيصال صوت كل فرد من أفراد المجتمع إلى الجميع، وتزايدت قوة هذه الأصوات مع زيادة حرية وسائل الإعلام، وتطورها، وأصبحت النداءات الداعية إلى التحولات الاجتماعية والتغيير السياسي قوة لا يستهان بها.

وكان من الطبيعي أن تتصدى السلطات المستبدة لهذه الظواهر، وتقمع منصات التواصل الاجتماعي لتتمكّن من كبت الأصوات المستقلة.

فالاستبداد لا يقبل الآراء المخالفة له، وترعبه ثورة تكنولوجيا الاتصالات التي تعطي الفرص للأصوات المقموعة بالتعبير عن نفسها.

ولذلك يستنفر كل طاقاته وإمكانياته لقمع هذه الظواهر بكل وسائل العنف التي يملكها قبل أن تتكرس وتؤسس لحرية إعلامية تصعب مواجهتها.

العنف ضد الصحفيين

حسب تقرير منظمة “مراسلون بلا حدود” عام 2019، لا يبدو إن نتائج مؤشر حرية الإعلام تحمل أخباراً سارّة، بل تشير إلى أن حرية الإعلام تراجعت في دول كثيرة، ليست محصورة بالشرق الأوسط الذي يعتبر البيئة الأكثر خطراً لممارسة العمل الصحفي، وإنما حدث تراجع ملحوظ في أميركا وبعض بلدان أوروبا أيضا.

وجاء في التقرير “وتيره الكراهية ضد الصحفيين تصاعدت إلى درجة جعلتها تبلغ حد العنف، الأمر الذي أدى إلى تنامي الشعور بالخوف، حيث تتقلص دائرة البلدان التي تعتبر آمنة ويمكن للصحفيين ممارسة مهنتهم بحرية وأمان، في وقت تشدد الأنظمة المستبدة قبضتها على وسائل الإعلام أكثر وأكثر”.

وأشار التقرير إلى ارتفاع غير مسبوق بدرجات العنف الموجه للصحفيين، واستشهد بما واجهته وسائل الإعلام في فرنسا أثناء تغطية مظاهرات السترات الصفراء بقوله “أصبح مراسلو بعض القنوات لا يجرؤون على إظهار شعار أو علامة المؤسسة الإعلامية التي يعملون لحسابها، بل هناك من اضطر للاستعانة بحراس شخصيين للتمكن من تغطية المظاهرات”.

وخلص التقرير إلى أن “ملخص حال الصحفيين من ينجو من القتل فإنه قد لا يفلت من السجن، أو للكثير من الانتهاكات والضغوط التي عمت دول العالم، وفي كل الأحوال فإن وسائل الإعلام تتعرض لخطاب كراهية وحض على العنف ضدها، وهو ما يجعل الإعلاميين يعيشون الخوف بشكل يومي”.

وتوقّعت نسخة العام 2020 من التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي تقوم به المنظمة أن يكون العقد القادم حاسماً بالنسبة لحرية الصحافة بسبب أزمة وباء كورونا، التي تهدد الحق في الوصول إلى معلومات من مصادر حرة ومستقلة وموثوقة، إضافة إلى الأزمات الأخرى التي لها تأثير سلبي على مستقبل وسائل الإعلام  وحرية الصحافة.

وفي هذا الصدد، قال الأمين العام للمنظمة “نحن مقبلون على عقد حاسم بالنسبة للصحافة، عقد مرتبط بأزمات موازية تؤثر على مستقبل الصحافة”، وأشار إلى أن وباء فيروس كورونا مثال صارخ على العوامل السلبية التي تقوض الحق في الوصول إلى معلومات موثوقة، بل إنه عامل يزيد الوضع سوءاً.

ورأى أن الأزمة الصحية تعتبر فرصة للحكومات الاستبدادية لتطبيق المبدأ الشهير المعروف باسم “نظرية الصدمة” المتمثل في استغلال تحييد الحياة السياسية وحالة الهلع بين الناس وضعف التعبئة الشعبية لفرض تدابير من المستحيل اعتمادها في سائر الأوقات.

وفي العام الحالي، وحسب منظمة “مراسلون بلا حدود” استغلت الأنظمة الاستبدادية جائحة كورونا لإحكام قبضتها على المشهد الإعلامي بشكل عام، واتخذت من الأزمة الصحية ذريعة لفرض تشريعات سالبة للحرية، من خلال ترسانة قانونية تمتزج فيها الدعاية بقمع الأصوات المعارضة.

أزمات تهدد الصحافة

تشكل مجموعة من الأزمات السائدة عوائق مهمة في وجه العمل الصحفي، وتعرّض مستقبل الصحافة للخطر من أبرزها:

أزمة الاستبداد

تبذل الأنظمة الشمولية قصارى جهودها لقمع وسائل الإعلام والصحافة المستقلة، وخنق أي صوت معارض لها، وفرض رؤيتها على الجميع باعتبارها الأصوب، والأصلح لكل زمان، ومنع وجود أي فكر لا تفرضه مؤسساتها، وأي تعددية لا تصنّعها قوانينها.

أزمة تنظيمية

أدى غياب الضوابط التنظيمية للنشر الرقمي إلى فوضى إعلامية حقيقية، وأدخل الصحافة في منافسة مع الدعاية والإعلانات والشائعات، وأثّر الخلط بين المحتوى التجاري والسياسي والدعائي سلباً على ضمان حرية الرأي، وسهّل صدور قوانين قمع الصحافة المستقلة تحت ذريعة الحد من انتشار الأخبار الكاذبة.

أزمة ثقة

نتيجة لغياب الضوابط، وانتشار الفوضى الإعلامية، تزايدت وتيرة انعدام الثقة بين وسائل الإعلام وبين جمهورها الذي بدأ يشك بأن معلوماتها غير موثوقة.

وازداد موقف الصحفيين ضعفاً في ظل فقدان هذه الثقة، وازداد قلقهم من استهدافهم من قبل المواطنين خلال المظاهرات الشعبية التي تضاعفت وتيرتها في جميع أنحاء العالم مؤخراً.

أزمة أخلاقية

تفاقمت أزمة العداء للصحفيين والتحريض ضدهم، وأدت إلى تزايد خطورة أعمال العنف التي تطالهم، وبلغت مخاوف الإعلاميين مستويات غير مسبوقة في بعض البلدان، حيث يواصل السياسيون وأبواقهم وحاشيتهم التحريض على الكراهية ضد الصحفيين بشكل علني.

أزمة اقتصادية

غالباً ما يجد قطاع الإعلام نفسه منهكاً في العديد من البلدان، بسبب تحول معظم هذه البلدان إلى الإعلام الرقمي، وتراجع المبيعات وإيرادات الإعلانات، وزيادة تكاليف الإنتاج والتوزيع الناجمة عن ارتفاع أسعار المواد الخام، لدرجة اضطرت معها مؤسسات إعلامية كبيرة إلى تقليص أعداد موظفيها.

كما حدث في الولايات المتحدة الأميركية، التي شهدت تقلص أعداد العاملين في الصحافة إلى النصف على مدى السنوات العشر الماضية.

وقد ترك هذا التوجه عواقب اجتماعية وخيمة، وأثراً خطيراً على الاستقلالية التحريرية في وسائل الإعلام بمختلف القارات، فمن الطبيعي أن تكون الصحف التي تعيش وضعاً اقتصادياً سيئاً أقل قدرة على مقاومة الضغوط.

قمع الصحافة والصحفيين

بدلاً من سن قوانين جديدة لفرض الرقابة على وسائل الإعلام، تكتفي معظم دول المنطقة بالتطبيق الحرفي لنصوص سالبة للحريات، وموجودة في ترسانتها التشريعية، مثل الأحكام القانونية التي تتعلق بـ “الفتنة” و”أسرار الدولة” و”الأمن القومي”، و”إضعاف الشعور الوطني”،  وفي هذه الحالات، يسير قمع الصحافة باتجاهين:

في الاتجاه الأول، تركب الحكومات موجة الموضة الرقمية التي تسير في منحى الإبداعات الجديدة في مجال التسويق السياسي، لفرض الخطاب الرسمي داخل وسائل الإعلام التي يديرها في الغالب، أشخاص من الجهات التي تعمل سراً أو علناً، في خدمة هذه الحكومات.

وفي الاتجاه الثاني، يشن الحكام وأتباعهم، والناشطون السياسيون حرباً شرسة ضد وسائل الإعلام والصحفيين الذين لا يتبعون خط الدولة الرسمي.

وصارت وسائل الإعلام الموالية لهذه الحكومة أو تلك، أبواق دعاية لها، بينما لا يتوانى المقربون منها عن وصف الصحفيين الذين ينتقدون تمادي سلطاتها بعبارات استفزازية من قبيل “أعداء الوطن” و”عديمي الروح الوطنية” و”دعاة الإرهاب”، مما يحوِّل منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات يتعرض فيها الإعلاميون المستقلون إلى حملات كراهية.

وعلى الصعيد القانوني، غالباً ما تستخدم الدعاوى القضائية لتكميم أفواه الصحفيين الذين ينتقدون السلطات الحاكمة.

لذا تعتبر المنطقة، والعالم العربي من البيئات الأكثر خطراً على وسائل الإعلام والصحفيين، بحيث لم يصنف مؤشر “مراسلون بلا حدود” سوى ثلاث دول احتلت مراتب أقل من المئة وهي جزر القمر، وتونس وموريتانيا، أما ما تبقى من دول فغالبيتها تقبع في مؤخرة المؤشر بلا تقدم مع مر السنوات الماضية.

وحين يجري الحديث عن قتل الصحفيين واختطافهم وترهيبهم فإن الأنظار تتجه إلى الشرق الأوسط، وخاصة العالم العربي، حيث تتحكم بمقاليد السلطة في معظم دوله أنظمة مستبدة لا تتعايش مع إعلام مستقل، بل تعمل على إخضاعه ليبقى مجرّد بوق لها.

إضافة إلى الصراعات والحروب الأهلية التي ابتليت المنطقة بها.

ومع أن حالات قتل الصحفيين واختطافهم تراجعت في العالم العربي منذ عام 2019 بعد اندحار تنظيم داعش الإرهابي، وتراجع مخاطره، وتقلّص دائرة المعارك في سوريا، إلا أن المنطقة ما تزال تشكل البؤرة الأكثر خطورة على عمل الصحفيين وعلى حياتهم.