ازدادت معاناة سكان مدينة جبلة مع غلاء الأسعار وارتفاع معدلات الفقر وزيادة تدفق النازحين إلى المدينة وانتشار البطالة، فلجأ العديد من النساء والأطفال إلى مكبات النفايات، يبحثون عن المخلفات القابلة لإعادة التدوير لبيعها، أو عن طعام يأكلونه أو لباسٍ يلبسونه، غير مبالين للمخاطر الصحية.
أصبحت قصص مكبات النفايات بجبلة إلى واحدة من أشهر قصص فشل الإدارات المتعاقبة في المدينة على مدار سنين في تقديم حلول حقيقية لمشكلة مزمنة طالت في ضررها منطقة واسعة من الساحل السوري
يؤثر الفقر بشكل ملحوظ في العوائل السورية، ووصل ذلك إلى الأطفال في مدن الساحل، وتحديدا جبلة وريفها، فقبل سنوات، كان سكان المدينة يسخرون من جمع أطفال القمامة، لكن اليوم بات مشهد طفل لا يتجاوز الـ 14 من العمر يجر عربة خلفها كيس كبير من أجل جمع أشياء ملقاة في حاويات القمامة، من كرتون ومواد تصلح لإعادة التدوير، وفيما تكشف تقارير الأمم المتحدة أن أكثر من 90 بالمائة من السوريين يعانون من العيش تحت خط الفقر، ما يجعل البلاد تتصدر اللائحة العالمية لمعدل الفقر ، تدل كل المؤشرات على أن الفقراء يزدادون فقرا في جبلة وريفها ويتدهور وضعهم، في حين يتمتع أغنياؤها بنفوذ وقوة، وينتشر في جبلة عمل تجميع البلاستيك والمخلفات التي تباع لمعامل إعادة التدوير، ويمارسه كبار وصغار وحتى نساء، لكن الأطفال يشكلون العدد الأكبر، ربما لأن أجسادهم أنحف، ويملكون الحيوية المطلوبة لجر العربات والانتقال من مستوعب نفايات إلى آخر ، السبب الرئيسي في انتشار هذا العمل هو الفقر، وقلة فرص الحصول على المال، وربما انعدامها، إضافة إلى وجود نازحين كثيرين، بعضهم بلا معيل أو سند، علما أن لا مردود كبيرا للعمل في جمع مخلفات القمامة، لكنه يساهم في إعالة العاملين فيه، ويساعدهم في سد رمق الحاجة الأدنى إلى الغذاء على أقل تقدير.
مجموعة أطفال تتراوح أعمارهم بين ال 14 الى 17 سنة يتحلقون حول مجموعة حاويات حبلى بالقمامة وتفيض وسط ساحة العمارة وعند ساحة البازار وعند ساحة الجبيبات، ينبشون بها بأياديهم الصغيرة والأوساخ تخفي معالم وجوههم الغضة وتحيل لون ملابسهم للسواد المغبر، واللافت في الأمر الحبوب والبثور والجروح النازة التي تغزو جلدهم، ويقولون انهم يجمعون القراضة ويبحثون في حاويات القمامة على المواد التي يمكن بيعها وقبض ثمنها بعد وزنها حيث نفرز البلاستيك والورق والخبز والتنك فلكل مادة سعرها، فنبش القمامة متفشيا في جميع الأحياء وما تحويه من حاويات في أرجاء مدينة جبلة، لتصبح تجارة رابحة وعملا يقوم به الكبار والصغار وحتى النساء اللواتي يتلثمن وهن ينبشن الحاويات برفقة أطفالهن، وليصل ما يحصلونه من أجر يتعدى 75 ألف ليرة لكل فرد حسب المادة ووزنها، مع العلم انه لا يخفى على أحد مقدار تردي واقع النظافة في المدينة وضواحيها حيث تنتشر القمامة، في ظل غياب عمليات الترحيل اليومية للحاويات مع التشاركية بالاستهتار من قبل المواطنين بالرمي العشوائي للقمامة لدرجة وضعها أينما تيسر وبأفضل الأحوال خارج الحاوية، المشهد يتكرر أينما تجولت في جبلة بظاهرة ملفتة خارجة عن حدود المنع، وللوقوف على حيثياتها وما هو دور الجهات المعنية بالنظافة، رغم ان المديرية تؤكد بشكل يومي بتسيير دوريات جوالة بمؤازرة شرطة مجلس مدينة جبلة للقيامة بحملات مكافحة للنباشين المتواجدين في كافة شوارع وأحياء المدينة، حيث يتم من خلال هذه الجولات مصادرة نواتج النبش ومصادرة أدوات عملهم والعربات التي يستخدمونها في النقل ونبش الحوايا.
بالمحصلة عملية نبش القمامة حاضرة وبكثرة في جبلة وضواحيها، وباتت مصدر رزق للكثيرين في ظل الانتشار الكبير للقمامة بجبلة وضواحيها، والتأخر بعملية الترحيل التي تسهل الفرص باستخراج الكثير من المواد القابلة للبيع والتي تجد تجارها الرابحين بالتأكيد.
السيدة وصال وهي محامية قالت: غياب مؤسسات الدولة عن رعاية الأطفال وتسربهم من المدارس عززا انتشار هذا العمل، وهذا الواقع هو مستجد، لم يكن أمرا مألوفا قبل سنوات، لكن الحرب أنهكت الجميع، ويواجه مزاولو هذا العمل ظروفا صعبة، بينها ارتفاع درجة الحرارة في الصيف وانخفاضها الشديد في فصل الشتاء، ويتعرضون للإصابة بأمراض معدية خطرة بسبب البحث في القمامة عن مواد تمكن إعادة تدويرها، مثل مخلفات البلاستيك والكرتون. وهم قد ينقلون هذه الأمراض إلى عائلاتهم.
لم يتجاوز غسان المقيم في مدينة جبلة جنوب اللاذقية، والذي يزاول هذا العمل، ويبلغ الـ 16 من العمر. يقول لـنا: ما دفعني لهذا العمل هو غياب الفرص وعدم توفر مبلغ مالي يسمح لي بأن أفتح مشروعا خاصا، يعمل والدي في الإنشاءات، وأنا أساعده من خلال عملي في تأمين لوازم المنزل، علما أن المردود اليومي لعملي لا يتجاوز ال 25 الف ليرة يوميا، لكن تلبية مصاريف الحياة تجبرني على مزاولته، لذا آمل في أن أعثر على غيره في أقرب وقت، ويوضح غسان أنه يستعمل خطافا صنعه من قضيب معدني، كي يستطيع تفحص الحاوية ويعرف ماذا يستطيع أن ينتشل منها، مشيرا إلى أنه يعمل غالبا بلا ارتداء قفازات لأن ثمنها مرتفع، ويعاني من الروائح الكريهة التي يجبر على تحملها لدى بحثه في الحاويات وتحريكها، ويشرح بعد البحث والتنقيب، أجر العربة إلى حاوية ثانية، كي أعيد الكرة مجددا عبر قلب أكياس النايلون وجمع بقايا صحون مصنوعة من كرتون، وعبوات بلاستيك، وأحيانا أفكر أن ما قد ينقذني من الفقر هو العثور على كنز أو مبلغ مالي ضخم موضوع في حقيبة توجد أسفل الحاوية، ثم أقول في نفسي إنها مجرد أحلام لا أكثر.
لا شك في أن معظم العاملين في جمع النفايات من أبناء أحياء فقيرة في مدينة جبلة، وأن العمل في جمع القمامة قد يساعد الأطفال الفقراء، لأنهم يزاولونه قرب مناطقهم حيث تتوافر معامل لإعادة التدوير التي تأخذ ما يجمعونه، لكن هذا الواقع يفقد الأطفال الحق في التعليم، علما أن دفعهم العربات للعمل يتسبب في أوجاع وإصابات جسدية لهم قد تصبح دائمة، لأن هذا العمل لا يتناسب مع أعمارهم، وأن هذا العمل ذو تأثير سلبي اجتماعي كبير ، ينظر إلى العاملين نظرة تمييزية، ما يترك أثرا نفسيا بالغا لدى الأطفال، ويؤثر في مستقبلهم، إضافة إلى هذا العمل المرتبط بالفقر الشديد، ينتشر في أسواق الفواكه والخضار أطفال يحملون صناديق لجمع بقايا الخضار والفواكه التالفة، وفي الساحل السوري، توجد نسبة كبيرة من النازحين الغرباء عن المنطقة، وبينهم أطفال فقدوا آباءهم أو معيلهم في الأسر، ما نقل هذا الدور إليهم.
يقومون بالنبش على زجاجات فارغة، مثل زجاجات المشروبات الكحولية، وعلب معدنية كعلب العصير والزجاج وبقايا الخشب والكرتون واﻷلبسة، وفي اﻷعياد مثل عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية، ويرتفع السعر الذي يتم دفعه لسائق شاحنة القمامة إلى عشرين ألف ليرة، ليتم تجميع هذه المواد ونقلها إلى مستودعات ومن ثم بيعها إلى أصحاب المعامل أو التجار أو غيرهم، ويتم كبس بعض المواد الناتجة من النبش الكرتون مثلا أو الخشب عبر مكابس بدائية، وما يتبقى، وهو في الغالب مواد عضوية يترك في مكانه، حيث يفترض طمرها بشكل صحي، وهو ما يجري لبعض الكميات، في حين أن غالبيتها تترك في الهواء الطلق دون طمر.
تمثل هذه الطرق في نبش القمامة واحدة من أبسط وأسوأ الطرق في إعادة تدوير القمامة، وهي منتشرة في كل أنحاء سوريا في ظل ضعف السياسة الوطنية لإدارة النفايات الصلبة، وزادت الحرب انتشارها في ظل الوضع الاقتصادي المتردي لملايين السوريين.
لم يعد مشهد رؤية أشخاص يجمعون المخلفات من حاويات القمامة من أجل بيعها، مشهدا مستفزا في مدينة جبلة، فقد أصبحت هذا المهنة مصدر رزق للكثيرين خلال السنوات الأخيرة، بعد تردي الوضع المعيشي وازدياد نسبة الفقر.
إن انتشار ظاهرة البحث بين القمامة من الجوع، شيء مخزي جدا، من غير المعقول أن يبحث مواطن عن لقمة عيش أولاده بين القمامة، ويحذر خبراء الصحة من خطر الإصابة بالعديد من الأمراض الخطيرة، وبالأخص الأمراض التنفسية والجلدية مع انتشار ظاهرة البحث في القمامة.