لكل السوريين

متى تنتهي مهمة أمريكا في شرق الفرات؟

فايق عمر: إعلامي سوري 

 

تعد معركة كوباني ضد تنظيم داعش الإرهابي، عام 2014، هي الجسر الذي مهّد للوجود العسكري الأمريكي في مناطق شرق الفرات. ففي أوج المعركة ضد التنظيم الإرهابي ألقت طائرات حربية أمريكية أسلحة وذخائر لمقاتلي وحدات حماية الشعب، التي اندمجت لاحقاً مع تشكيلات عسكرية أخرى، في جسم عسكري واحد تحت مسمّى قوات سوريا الديمقراطية (قسد). لم يقتصر هذا الدعم على تقديم الأسلحة والمعدات العسكرية، بل إن طيران التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، شنّ في الوقت نفسه سلسلة من الغارات الجوية استهدفت مواقع التنظيم في محيط كوباني وكبّدته خسائر كبيرة. وكانت ثمرة هذا التعاون والتنسيق القضاء على التنظيم الإرهابي في معركة كوباني التاريخية، التي كان لمقاتلي ومقاتلات وحدات حماية الشعب الدور الأكبر والأبرز فيها، وكذلك التمهيد لعلاقة بين الطرفين لا تزال قائمة حتى الوقت الراهن.

هذا التعاون كان يُنظر إليه في البداية على أنه مؤقّت وسينتهي بمجرّد هزيمة داعش في كوباني. لكن الذي حصل خالف جميع التوقعات، حيث تعمّقت العلاقات كثيراً بين التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية، وتطورت إلى درجة أن الاثنين حاربا معاً في جبهة واحدة حتى هزيمة التنظيم الإرهابي في آخر معاقله ببلدة الباغوز شرقي مدينة دير الزور السورية.

ورغم دحر داعش من آخر معاقله فإن التعاون لا يزال مستمرّاً بين الطرفين، ويتواصل دون انقطاع تدفق الأسلحة والذخائر إلى مناطق شمال وشرق سوريا. لكن ومع ذلك فإن التواجد العسكري الأمريكي في شرق الفرات لا يزال مثار تساؤل كبير حول ما إذا كان الهدف منه بالأساس هزيمة داعش، أم أنه ينطوي على أهداف استراتيجية تنوي واشنطن تحقيقها في المدى البعيد؟

بعد الإعلان عن القضاء على داعش، في مراسم رسمية أقيمت بعاصمة خلافته المزعومة في مدينة الرقة السورية، كان من المفترض استناداً إلى تصريحات سابقة أدلى بها المسؤولون الأمريكيون، أن يتم أيضاً الإعلان عن انتهاء مهمة التحالف الدولي، لكن الذي حصل هو أن واشنطن أكدت أن التحالف سيواصل دعمه وتعاونه مع قوات سوريا الديمقراطية، معتبرةً أن هزيمة التنظيم عسكرياً لا تعني القضاء عليه نهائياً، وإنما هناك أيضاً حاجة للقضاء على أيديولوجيته الفكرية للحيلولة دون عودته للظهور.

في الحقيقة، لا يمكن القول بزوال خطر عودة تنظيم داعش إلى الظهور من جديد، لكن هذه الذريعة الأخيرة التي تسوقها الولايات المتحدة تحمل قدراً كبيراً من ضبابية الموقف، إذ يمكن لواشنطن أن تستخدمها إلى ما تشاء لتبرّر بقاء قواتها في سوريا، ليس فقط لصعوبة قياس ومعرفة ما إذا زالت واندثرت أفكار التنظيم، بل أيضاً لأن هناك حاضنة شعبية لا تزال تنهل من أفكاره، وليس منطقياً توقع زوالها في المدى القريب.

حتى هذه اللحظة، ليس معروفاً على وجه الدقة حقيقة وطبيعة الوجود الأمريكي في مناطق شمال وشرق سوريا، فالغموض يلفّ حتى العدد الحقيقي للجنود الأمريكيين الموجودين على الأرض، وكثيراً ما تضاربت تصريحات المسؤولين بهذا الشأن، حتى إن المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا، جيمس جيفري، صرّح في مقابلة صحفية أنه وزملاءه أخفوا عن دونالد ترامب العدد الحقيقي لقواتهم المتواجدة هناك، مؤكداً أن العدد الفعلي لتلك القوات أكثر بكثير من مئتي جندي الذين وافق الرئيس على بقائهم في سوريا عام ألفين وتسعة عشر.

لكن ورغم كل الغموض المحيط بالتواجد الأمريكي في مناطق شمال وشرق سوريا، فإن الشيء الثابت منذ أن حطّت واشنطن أقدامها في تلك المناطق، هو أنها مستمرّة في إرسال الأسلحة والمعدات العسكرية إليها، وتقوم في الوقت عينه بتحصين نقاطعها وقواعدها العسكرية.

كما أن جميع تصريحات المسؤولين الأمريكيين تؤكد على مواصلة الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية، وأن قواتهم ستبقى في سوريا ليس فقط إلى حين القضاء على داعش بشكل نهائي عسكرياً وأيديولوجياً، بل إلى أن يتمّ التوصل لحل سلمي للأزمة السورية المستمرة منذ عقد من الزمن، طبعاً إذا ما استثنينا القرار المباغت الذي اتّخذه ترامب بسحب قوات بلاده، والذي أفسح الطريق للغزو التركي على مناطق شمال وشرق سوريا.

بل حتى قرار الانسحاب نفسه، والذي أثار جدلاً واسعاً في الداخل الأمريكي وكان سبباً في استقالة وزير الدفاع الأسبق جميس ماتيس، فسّره البعض على أنه لم يكن يعبّر عن حقيقة توجهات السياسة الأمريكية تجاه سوريا، وإنما كان قراراً تكتيكياً لإرضاء أنقرة عبر السماح لقواتها باحتلال منطقتي سري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض)، وفي الوقت نفسه ممارسة بعض الضغوط على قوات سوريا الديمقراطية، وذلك بعد فشل جهود الوساطة الأمريكية في إيجاد تفاهمات بشأن القضايا الخلافية بين أنقرة والإدارة الذاتية للشمال السوري.

وإذا كانت الإدارة الأمريكية السابقة قد زعزعت الثقة في الشراكة القائمة بين التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية، فإن الأخيرة تنتظر من الإدارة الجديدة، بقيادة جو بادين، أن تعيد بناء جسور الثقة بين الطرفين، وذلك بإصلاح ما أفسده ترامب. ويبدو أن إدارة بايدن عازمة بالفعل على اتخاذ خطوات عملية في هذا المسار، ففي أول تصريح رسمي لها بشأن العلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية، أعلنت وزارة الخارجية أن “قسد” كان لها حصة الأسد في الحرب على الإرهاب وأنهم سيبقون شركاء أقوياء لواشنطن.

هناك وجهتا نظر بشأن السياسة التي ستنتهجها الإدارة الأمريكية الحالية تجاه الملف السوري، الأولى ترى أن استراتيجية واشنطن ثابتة فيما يتعلق بسوريا، وأن طريقة تعاطي إدارة بايدن مع هذا الملف لن تختلف عن سابقتها. ووجهة النظر الأخرى تذهب إلى إمكانية تبني الإدارة الجديدة لخطة حرب جديدة في سوريا، ضد نفوذ كل من روسيا وإيران، وللحدّ من التدخلات التركية التي باتت مبعث قلق للديمقراطيين وحلفائهم الأوروبيين. وفي كلتا الحالتين فإن الولايات المتحدة تبقى في حاجة إلى مواصلة التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، باعتبارهم شركاءها الوحيدين على الأرض الذين يمكن الاعتماد عليهم، ونظراً لأن مناطقهم هي البيئة الآمنة الوحيدة التي يمكن لجنودها البقاء فيها.

الولايات المتحدة لم تقطع آلاف الأميال لكي تأتي فقط من أجل محاربة تنظيم داعش. بل إنها حتى متّهمة بالمساهمة في تضخيم قوة ونفوذ داعش لخلق ذريعة التدخل في سوريا. ثم لماذا تأتي لمحاربة داعش في دولة كانت تعتبرها من الدول المارقة التي يجب القضاء على نظام الحكم فيها؟ في الواقع، هي تدخلت في الحرب السورية ضمن سياسة بسط النفوذ لحماية مصالحها وتعزيز وجودها في مواجهة النفوذ الروسي والإيراني. لذا يمكن القول إن هناك أهدافاً استراتيجية بعيدة المدى تنوي الولايات المتحدة تحقيقها من وراء التواجد العسكري في سوريا، مهما حاولت المراوغة والتحايل عن طريق ربط هذا التواجد بمحاربة داعش وإيجاد الحلول السلمية للصراع السوري، ويبدو أنها ترى في الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية دعامة أساسية لتحقيق تلك الأهداف.