لكل السوريين

تشويه صورة المثقفين

داهمتني في الفترة الأخيرة فكرة مؤلمة ظلت تطاردني حتى امتلكتني عقلياً ووجدانياً، ولم تترك لي أدنى فرصة للهروب منها، هذه الفكرة هي محاولة تشويه صورة المثقفين في الوطن العربي، بهدف  تدميرهم كقوة أساسية من قوى الاندفاع الحضاري إلى التقدم والتطور ومواجهة التحديات الكثيرة التي يعيشها، وهذه المحاولة قديمة في وطننا العربي، بل هي محاولة معروفة في الغرب نفسه، وبالنسبة للوطن العربي فان في عقلي وقلبي معاً صورة أديب فنان مفكر نبيل هو عبدالله النديم الذي عاش في مصر في القرن الماضي، وكان شعلة من الوطنية والحماس والذكاء والفهم الصحيح لضرورات التطور في مصر والعالم العربي والاسلامي، وقد لقي هذا الأديب والمفكر المبدع ألواناً من العذاب والاغتراب والتشويه لشخصيته وآرائه، وذلك بعد أن دخل الاستعمار الانكليزي مصر سنة 1882، وقد اضطر النديم أن يبقى مختفياً في القرى المصرية وسط الفلاحين تسع سنوات متواليات، ثم تم  القبض عليه وعفا عنه الخديوي توفيق لفترة قليلة، وانتهى به الأمر إلى الطرد من مصر والنفي إلى تركيا حيث مات هناك، وليس له الآن قبر معروف، وما أكثر النماذج الأخرى التي حاول الاستعمار تشويهها بشتى الأساليب والوسائل، وبعض المثقفين كانوا يتعرضون لهذا التشويه من الداخل، حيث يحاطون بضغوط تؤدي بهم إلى أمراض نفسية وعضوية مدمرة، ومن لم يستسلم للتشويه الداخلي فانه يتعرض لتشويه خارجي شديد القسوة في ظروف حياته الاقتصادية والعائلية وما إلى ذلك.

وهذا الذي يحدث عندنا له نماذج عديدة في الغرب، فقد سبق أن انتحرت الممثلة الأمريكية “جين سيبرج” بعد أن تولت أجهزة التشويه الموجهة إلى الأدباء والفنانين والمفكرين حصارها واضطهادها، وجين هذه هي بطلة فيلم  “جان دارك” المأخوذ عن مسرحية برنارد شو المعروفة “القديسة جان” والذي أخرجه المخرج الكبير الأمريكي الجنسية والألماني الأصل “أوتوبير منجر” سنة 1957 ولا أظن أن أحداً من عشاق السينما الرفيعة ينسى هذا الدور العظيم، الذي كان أول أدوار جين سيبرج، ومضت جين تقطع طريقها نحو المجد الفني بعد دورها في جان دارك، ولكنها كانت فتاة بريئة وصادقة وموهوبة وصاحبة موقف، وسرعان ما ارتبطت، وهي المرأة البيضاء، بحركة تحرير الزنوج في أمريكا، فساندتها بكل قوة وشجاعة، مما أثار ضدها غضب تلك الأجهزة الشريرة الغريبة التي تقاوم بشراسة كل تقدم انساني وكل خير  يعود على البشر. وبدأوا يحاربونها في عملها الفني ويقفون في طريقها، وينشرون الأكاذيب حولها، وعندما حملت من زوجها قيل عنها انها تحمل من أحد المجرمين السود التي كانت على علاقة غير شرعية به، وكتبوا عنها أنها امرأة بلا أخلاق، وأنها مجرد غانية تلعب بالرجال، ووصل بها الأمر من كثرة ما أثاروا حولها الشبهات والشائعات إلى حد أن طلبت اللجوء السياسي ذات يوم إلى الجزائر وأرسلت بطلبها هذا إلى الرئيس بومدين في حينها، ولا أدري لماذا لم تنفّذ رغبتها في اللجوء للجزائر، أو أي بلد آخر تطمئن فيه وتأمن، ويبدو أنّ السبب الرئيسي هو أن التشويه في داخلها كان قد وصل إلى أعماقها حتى أصبح داء لا شفاء منه فانهارت أعصابها واضطربت نفسيتها وظلت تهوى إلى الحضيض يوماً بعد يوم حتى قررت الانتحار بالحبوب المنومة في سيارتها قرب نهر السين.

وتقودني خواطري في هذا المجال إلى الانتقال لنموذج آخر مختلف كل الاختلاف عن النموذج السابق، وهو نموذج من حياتنا الثقافية الراهنة، فقد قرأت مقالاً في أحد المجلات يفيض بالافتراءات والأكاذيب ضد الفنان العربي الكبير الكاتب الطيب صالح، وفي هذا المقال تجريح للطيب صالح لا يقبله عقل أو ضمير، وقد سألت نفسي وأنا أقرأ هذا المقال: لماذا يحاولون تشويه الطيّب صالح، وهو الفنان الذي أضاف إلى أدبنا العربي المعاصر اضافة لا تعوض؟

لماذا يحاولون أن يطفئوا هذا النجم الذي أضاء في سمائنا الثقافية وهي قليلة النجوم والأضواء؟ وقد حمدت الله أن الطيّب صالح، إلى جانب عبقريته الفنية، ليس انساناً سهل الكسر، فقد منحته الطبيعة نفساً رضية قادرة على الاحتمال، ولو لا ذلك لألقى هذا الفنان بالقلم الموهوب في وجوهنا وانقطع عن مواصلة طريقه الفني وغضب غضبة أخيرة واعتكف واستراح.

إنّ الحقيقة الواضحة أمامي اليوم هي أن الاستعمار الثقافي الذي تعرّض له الوطن العربي في العصر الحديث لا يكتفي باضطهاد المثقفين الوطنيين أو محاولة تحويلهم عن طريقهم الصحيح، كقوة حضارية مرتبطة بمصير الأمة كلها، ولكن هذا الاستعمار يعمل باسلوب آخر هو هذا التشويه الذي أتحدث عنه، وهذا التشويه يهدف دائماً إلى القاء ألوان من الشك حول شخصيات هؤلاء المثقفين وحول مواقفهم المختلفة، وهو تشويه يهدف أيضاً إلى تجميد قدرات هؤلاء المثففين على الابداع والانتاج والعمل والنضال من أجل وطنهم، ويهدف هذا التشويه في نهاية الأمر إلى نزع ثقة المثقفين بأنفسهم ونزع ثقة الناس فيهم، وتشويه المثقفين الوطنيين عملية واسعة النطاق تجري كل يوم.

وهكذا تحول الكاتب الكبير في ذهن الجماهير إلى “مهرّج” وكان الهدف من التشويه دفع الرأي العام إلى الانصراف عن أفكار الكاتب إلى ما يتصل به من “طرائف”، والحق أن توفيق الحكيم استسلم هو الآخر لهذا التشويه الضار وساعد عليه طلباً للنجاح والشهرة. وكان ذلك خطأ منه في حق نفسه وفي حق فكره وأدبه، وفي حق الرأي العام العربي كله.

انهم يعملون بلا رحمة على تشويه المثقفين الوطنيين، وما النماذج السابقة إلّا أمثلة تتكرر كثيراً وعلينا أن نتنبّه إليها ونقف في وجهها بقوة وعزم شديد.

 

عبد الكريم البليخ