لكل السوريين

ماذا بقي وماذا رحل من مقاهي اللاذقية البحرية

اللاذقية/ سلاف العلي

لا يوجد توثيق دقيق لتاريخ تأسيس أول مقهى في اللاذقية، وكان يوجد عدد من المقاهي في حي الصليبة منذ منتصف القرن التاسع عشر وما بعد، وغالبيتها رحلت مع تقدم السكن والحضارة وصعو الأبراج والطوابق، ولكن دور تلك المقاهي لم يكن يقتصر على تدوير الساعات والهرب من روتين البيوت فحسب، لكنها ذات تأثير كبير على عالم اللاذقية السياسي والثقافي والفني والفكري.

سجلت اللاذقية انتشارا للمقاهي الشعبية التي تقدم القهوة والشاي والأراجيل، فيما وسائل التسلية هي استمرار لألعاب الأيام الماضية والقديمة، ومنها ألعاب الطاولة والمنقلة والورق.

ولا توجد وثيقة تجزم من بدأ بتشييد تلك المقاهي في هذه المدينة البحرية، مع العلم أنّها أقيمت صيفا من أجل خدمة المصطافين والزوار والسباحين من أهل المدينة. يغلب الخشب في بنائها باعتباره السائد في تلك المرحلة، وهذا ما جعله يهترئ ويتهدم مع الزمن، فيما يهدر ما بقي منه منذ توسع المرفأ في خمسينيات القرن الماضي.

السيد درغام المثقف والكاتب التاريخي وهو مدرس متقاعد لمادة تاريخ قال: أنشأ أسعد شناتا أول مقهى ذي إطلالة بحرية في اللاذقية العام 1891، وما زال في مكانه الحالي عند الكورنيش الغربي، ثم لحقته مقاه أخرى في الحارات التاريخية للمدينة، مثل حي الصليبة العريق حيث احتل مقهى أبو سالم غضبان قصب السبق، ومقهى سباهية في الشيخ ضاهر، وحنونة في سوق بيت الداية، وكان مقهى البستان هو ما بقي منها حيا حتى مطلع القرن الحالي، في مكانه القديم نفسه عند تقاطع شارع 8 آذار مع شارع مصرف التسليف الشعبي, وان نشوء المقاهي باللاذقية يتقاطع زمنيا مع ما يعرف عن نشوء مسرح أبي خليل القباني في دمشق، وبفارق ليس كبيرا، فالقباني بدأ تجاربه المسرحية على خشبات المقاهي في سبعينيات القرن التاسع عشر، وتلتها محاولات خجولة ،بعد أقل من عقد مع تأسيس مقهى شناتا في العام 1891 .

السيد أكثم وهو مهندس مدني متقاعد اضاف: أن مقهى الشلا في حي القلعة احتضن شخصا يقدم قصص عنترة وأبي زيد الهلالي وغيرهما، اسمه الخباص، ولم يعرف لهذا الشخص اسم غير ذلك، وظل يحتل المقاهي لسنوات طويلة خاصة في شهر رمضان. ثم لحقه حسن الحكواتي ومحمود غريب اللذين بقيا إلى أن جاء الفلسطيني أبو روحي في أعقاب النكبة، فبدأ سيرة مغايرة، إذ كان يؤدي شخصيات القصص بطريقة أقرب إلى الأداء المسرحي، ويوجد صور لمقاه أنشئت على طول المسار البحري الذي يغلف المدينة، بدءا من مصب النهر الكبير الشمالي جنوبا، وصولا إلى ما هو الآن مسمى باسم المدينة الرياضية، التي ابتلعت والمرفأ نسبة كبيرة من واجهة المدينة البحرية، حتى غدت مدينة اللاذقية بلا مقهى يطل على البحر مباشرة، وفي الاتجاه المعاكس لمقهى شناتا شمالا، ما زال مقهى العصافيري حيا بقدرة قادر، وهذا المقهى لم يشغل كثيرا ذاكرة المدينة إلا لناحية الاسم الغريب الذي يعود لصوفي مغربي كان يقطن بجوار البحر قبل الردم الذي أبقى له قبرا مهملا في جوار المقهى، قرب العصافيري طمرت عشرات المقاهي البحرية، بدءا من مقاهي البحري ورشو والكازينو، مرورا بـ فينيسيا واللاكيان ونادي الضباط، وصولا إلى مسبحي جورج او نادي المعلمين وفارس، ونادي صف الضباط، الذي ما زال موجودا.

والسيدة تمارا الطبيبة التي تجاوزت الثمانين قالت: نحن تربينا في منطقة الكورنيش الغربي، قرب نادي الكازينو اليوم، وكانت كل الدنيا مساحات خضرا تكاد تغطي واجهة المدينة كاملة، قبل إنشاء المرفأ في بداية الخمسينيات، وفيها أشجار زيتون كانت تغطي مساحات لا بأس بها من تلك الأمكنة، وبقربها عشرات البساتين الممتدة إلى الشاطئ مباشرة، وفي بعض تلك البساتين كان ثمة ينابيع مياه عذبة، ولكنها ردمت مع ما ردم، وفي أيامنا هذه، تخنق الواجهةَ البحريةَ للمدينة مبانٍ عاليةٌ بأسعار لا متناهية. يقابلها المرفأ بساحاته الإسمنتية وحاوياته الملونة الفارغة، وبعده قد يحالفك الحظ برؤية اللون الأزرق.

السيد خلدون الثمانيني، وكان يسير الهوينة على الكورنيش ، احب ان يوضح ويضيف، وقال : لقد كان مقهى شناتا مؤلفا من مقهى ومطعم ومسرح ودار سينما تقام فيه أحسن العروض لأشهر الفرق الفنية العربية، وكان صاحبه المرحوم أسعد شناتا، ثم الوريث ابنه محمد، يعملان باستمرار على تحسينه والتعاقد مع متعهدي الحفلات الفنية لكبار فناني العالم العربي، وكانت حفلات هؤلاء من الأيام المشهودة في تاريخ اللاذقية، وأن المرحلة الذهبية في تاريخ مقهى شناتا كانت بين عشرينيات القرن الماضي وأربعينياته، ففي العام 1928، استقبل مسرحه فرقة فاطمة رشدي المصرية، كما قدمت فرقة أمين عطا الله استعراضها على المسرح نفسه، وفيه برزت شخصية كشكش بيك، ثم في العام التالي حضر الفنان نجيب الريحاني مع فرقته المسرحية، وكان معروفا بشخصية كشكش بيك، فصار الناس يقولون إنه سرقها من أمين عطا الله، وأن حفلات أم كلثوم الثلاث : 17 و18 أيلول 1931، و22 حزيران 1933، بقيادة محمد القصبجي امتدت حتى الفجر، ومما غنته فيها: يا آسي الحي، وكم بعثنا مع النسيم سلاما، وأقصر فؤادي، وكان يومها، وفق ما يحكى، أن باع بعض عشاقها أثاث بيوتهم من أجل شراء التذاكر الغالية جدا، بقيمة ليرة ذهبية عصملية، أي ما يعادل حاليا عشر غرامات من الذهب، مع العلم أن سعر الغرام الواحد كان بحدود ليرتين سوريتين، أن أم كلثوم غنت في المقهى يوم الجمعة، ووصل صوتها إلى المدينة كلها حتى سمعها أهل سوق الداية، أي على مسافة تناهز الكيلومترين، ويغيب التوثيق البصري لهذه الحفلات مع الأسف، وفي الأعوام التالية، استضاف المقهى الفنانين محمد عبد الوهاب وسعاد محمد وليلى حلمي، وعددا من الفرق المسرحية اللامعة على غرار فرق يوسف وهبي وزكي عكاشة وفاطمة رشدي وأمين عطا الله ونجيب الريحاني.