لكل السوريين

حمى الشتاء الجاف وطقس أم “الغيث” في “الرقة”

(يا الله الغيث يا دايم تسكي زرعنا النايم          أم الغيث غيثينا تا نسكي كريعة راعينا)

في مثل هذه العبارات، التي تتضمن توسلات إلى الله في سبيل نزول المطر، أفرد التراث الشعبي مساحة واسعة لأهازيج تراثية، حيث دأب اليانعين من الشباب والشابات والأطفال على التغني بهذه الأهازيج، ولا سيما عند انحباس المطر وتأخر سقوطه. وفي حالات كثيرة يحدث أن يموت الحلال وتيبس الأشجار، وينزح مربوا الأغنام من قبائل وعشائر عن نزلها  التي تقطنه في البوادي السورية بحثا عن مساقط الماء والكلأ، ومنها منطقة “الرقة” اثر انقطاع الأمطار، حتى تنقلب المراعي في ربوع الجزيرة الفراتية إلى أرض قاحلة، ولمدة قد تطول لأعوام كثيرة، وقد تقصر سنوات الجدب والقحط لأعوام أقل،  حيث كان أبناء البادية يعتمدون في معيشتهم على الماشية، التي تحتاج إلى الشرب والارتواء والمرعى، وهذه الحالة المأساوية كانت تشكل منذ الأزل هاجساً يُدخِلُ الخوف واليأس إلى قلب الإنسان، وكان لا يجد أمامه سبيلاً لمواجهة هذا القحط، سوى استجداء المطر من السماء، واستجداء المطر عادة اجتماعية متجذرة في عمق التراث العربي، يحييها أهل “الرقة” في جميع أنحاء المحافظة بغرض استجداء المطر، حيث يقوم الأهالي بالتضرع إلى الله لنزول المطر، ولإقامة هذا الطقس يقوم الأهالي بما ندعوه بالنداء الديني، وهو النداء الذي يتوجه إلى “أم الغيث”، و”أم الغيث”، هي استغاثة بالله تعالى لنزول المطر، وهو طقس من طقوس العرب، الذي كانوا يمارسونه قديما، ولقد نسخت “بضم حرف النون” هذه العبادة بعد ظهور الإسلام بإقامة صلاة الاستسقاء، وأصبحت حالة مستمرة على صورة فلكلور شعبي غنائي عبر الأجيال المتلاحقة، واستعدادا لإقامة هذا الطقس يقوم موكب أم “الغيث” بجمع الدقيق والسميد وما تيسر من الأهالي، وهي عادة يقمن بها صبايا وصبيان القرية اليافعين، حيث يطوفون القرية بل كل القرى يمرون على البيوت واحدا فواحد حاملين الصحون والملاعق الكبيرة، وكانوا بنياناً وبناتاً، يصنعون لعبة خشبية صغيرة على شكل صليب، ثم يلبسونها ثوباً، ويضعون على رأسها قماشاً أو هبرية على شكل عروس، ليتشابه مع رأس الإنسان، ويطلقون عليها اسم “أم الغيث”، أي “أم المطر”، بنيننا وبناتا يقمون بطرق أبواب البيوت، وكل بيت يقدم لهم شيئا من دقيق وبرغل ورز أو حنطة او فلفل او غيره، وبعض الأهالي عندما يسمعون استغاثة الموكب يسرعون بإحضار الماء ورشه عليهم، أو يعطونهم بعضا من أرغفة خبز الصاج الذي يسمى دابل  منشدين ما يلي:

(أم الغيــث غيثيــنا

بلِّـي بشيِّـت راعــينا

راعينا “حسـن” أقــرع

لُـوْ سنتين ما يــزرع

والشعير بطول البــاب

والحنطة ما إلها حساب)

وأحيانا في قرى بعيدة، يقوم الأطفال في المساء من صبية وصبايا، وهم يحملون بأيديهم حجرين صغيرين من حجر الصوان” مداك”، حيث أنهم يطوفون القرية وبيوتها وهم ينشدون مجموعة أهازيج خاصة، وهم يضربون الحجارة بعضها ببعض مرددين:

ياربي تسكينا المطر.. ياربي تسكينا المطر

وتشجيعا لربات البيوت على إعطائهم كمية لا بأس بها من القمح والسكر، كانوا يقفون أمام البيت مرددين بعد قرع الباب:

(أم الغيــث غيثيـنا

حلِّيْ صْراركْ واعطينا

التعطيـنا بالغـربـال

يصبح ولدها خيَّــال

والتعطيـنا بالطبـشي

يصبح ولدهـا يمشـي

والتعطينا بالطاســة

أم حجول رقَّاصــة)

وكانت ربَّات البيوت، وخشية من أن يوصمن بأنهن راقصات وبخيلات، يلجأن إلى إعطائهم كمية لا بأس بها من القمح أو السمن، مشجعةً إياهم بالهلاهل والكلمات الجميلة، لتدخل إلى نفوسهم البهجة والسرور، وبعد الانتهاء من هذه المسيرة، يجتمع الأطفال ويقومون بسلق القمح في إناء كبير، وبعد أن ينضج، يتقاسمونه فيما بينهم، وذلك بعد أن يضعوا على وجهه سكر “الشوايا”». وغالبا ما يتم الطبخ والشوي في ساحة، حيث يمر المارة ويشاركونهم بالأكل.. اندثار هذه الطقوس في منطقة “الرقة” لكن ليس كليا، كان لأسباب عديدة، منها: توسع المدينة، وهجرة مواطنين من كافة أنحاء سورية إلى مدينة “الرقة”، حيث اختلطوا بالسكنى مع أهاليها، فامتزجت موروثاتهم الاجتماعية بعضها مع بعض، ولم تعد هناك هوية خاصة للمدينة، فاندثرت هذه العادة أو الطقس في المدينة وجزئيا في الفرى، مع ما اندثر من تراث شعبي، ناهيك عن التطور التقني، ودخول وسائل الاتصال الاجتماعي وغيره من الوسائل، التي تلعب دوراً في تغيير الكثير من العادات والتقاليد الشعبية.. ويظل طقس أم “الغيث” يشكل حالة احتفالية، وطقسا طفوليا بالدرجة الأولى يلامس أمزجة الناس، ويداعب المشاعر على أنه جزء هام من التراث الرقي المادي، كون هذا الطقس يشكل حركة اجتماعية بفطريتها الظاهرة مترسخة في الأعماق كونها جزء من وعي سابق ارتبط بالأساطير ولا حقا بالدين، ومناجاة الله الرب القادر على الاستجابة في كل زمان ومكان.