لكل السوريين

بائعة الكبريت في الرقة

أحمد الابراهيم

لعل جميعنا في زاوية من زوايا ذاكرته، توجد قصة تأثر بها من الجانب الإنساني، ولعل من أهم القصص تلك المرتبطة بالأطفال وكانت قصة بائعة الكبريت أشدها تأثيرا.

كون هذه القصة ارتبطت بطفلة عانت من قسوة الحياة، وانعدام الرحمة لدى أبناء جنسها، ووقعت في نهاية القصة متوفية ضحية للظلم وضحية واقعها المتردي، أمام عتبة أكبر أمانيها، وهي تناول وجبة طعام دافئة في تلك الليلة الباردة، التي فارقت فيها الحياة.

ولكن المفارقة العجيبة، مع أننا جميعنا شاهدنا وفاة بطلة القصة بائعة الكبريت، إلا أننا نشاهدها وبشكل يومي تجوب الشوارع في مدينة الرقة، ولعلنا نشاهدها بنفس اللحظة بأكثر من وجه.

كلنا يعلم بأن الله يخلق من الشبه أربعين، إلا بائعة الكبريت في الرقة خلق لها من الشبه ألف، ولكن للأسف ليس لديهم كبريت لبيعه، وإنما لديهم ممارسات أخرى، والكثير من الأعمال المختلفة التي تجلب لهم المال.

ففي مدينتي هنالك أطفال يذوقون الموت في كل لحظة من شدة التعب، وتعرضهم للخطر بشكل مستمر، وهم يقومون بجميع بقايا مدينتهم المدمرة لكي يعيشوا من أنقاضها، واستشهد منهم البعض بسبب عبوة لم تنفجر في أيام الحرب، أو بسبب انهيار أحد الأجزاء البيتونية المتدلية.

ومازال الكثير منهم يعملون بشكل متواصل، كي لا يلقوا نفس مصير أختهم الكبرى، ولعل من أقسى المظاهر التي نشاهدها، هو تجمع بائعي كبريت اليوم وأهلهم ليقتاتوا على نفايات بني بلدهم.

وهم يسمون اليوم بالنباشين الذين يقومون بفتح نفايات المنازل، وفرز ما فيها من بلاستيك ومعادن وطعام، وفي هذا المظهر الذي نراه بشكل يومي وبكثافة ضمن المدينة، دون أية صرخة للضمير او الوجدان الإنساني.

ليقول نحن مازلنا بشرا، وكيف نرضى بأبناء بلدنا بأن يمارسوا هكذا أعمال بثياب رثى وأقدام حافية، في عصر التقدم والرفاهية البشرية.

ولعل هذه المدينة التي دمرت، لم يكن دمارها مقتصرا على الأبنية، بل نال هذا الدمار من الاقتصاد والصحة والأخلاق والعلم، ولربما بائعي الكبريت في مدينتي يتمونون أب، يعيشوا نفس ظروف بطلة فلم بائعة الكبريت.

كونهم يرون بأن ظروفهم أشد قسوة من ظروفها، ولعل نهايتها التي كانت بالوفاة اليوم يتمناها أغلب أطفالنا، الذين لم يعرفوا من هذه الحياة سوى القتل والدمار والتشرد.

ولعلي زدت من التشاؤم لدرجة البئس، ولكن لابد من بادرة أمل في أهالينا الذين لديهم القدرة على العيش والتعايش، ولابد من إنعاش الأخلاق المجتمعية من جديد، وترميم الجراح ذاتيا.

ولعلنا نسمع عن تشكيل مكاتب خاصة بحماية حقوق الأطفال ومنع عمالة الأطفال، ونترقب عمل هذه المكاتب وكيف ستقوم بدعم الطفولة، ودعم أهاليهم، بحيث يتم سد الاحتياجات، ويتم إحالة الأطفال نحو أبواب المدارس، بحيث نستطيع الحفاظ على بناء المجتمع بشكله السليم والذي يضمن المستقبل للسوريين بشكل عام.