حاوره/ مجد محمد
في ظل الانهيار العميق الذي تعيشه الدولة السورية، ووسط التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى التي شهدتها البلاد منذ عام 2011، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، عبر عقد اجتماعي جديد يعيد للسوريين كرامتهم وحقوقهم، وينهي إرث الحكم المركزي الأحادي.
ولتسليط الضوء على هذه القضايا الجوهرية، أجرت صحيفة “السوري” حواراً مطولاً مع الأستاذ عزيز ميرخان، الباحث في مركز الخابور للدراسات الاستراتيجية، تطرّق فيه إلى أسباب تفكك الدولة السورية، ومآلات العقود الدستورية المطروحة، وتقييم تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وسبل بناء دولة ديمقراطية حقيقية في المستقبل.
انهيار العقد الاجتماعي كانت نتيجته انهيار الدولة السورية، ما رأيك بهذا؟
يرى ميرخان أن ما شهدته سوريا لم يكن مجرد انهيار سياسي، بل تفككاً بنيوياً لعقد اجتماعي زائف، فُرض بالقوة ولم ينبع من إرادة شعبية حقيقية. وأضاف:
“لم يؤسس النظام البعثي أي شكل من أشكال التعاقد بين الدولة والمجتمع، بل فرض عقيدة الدولة الأمنية كحقيقة وحيدة، مهمّشاً المكونات القومية والدينية والطبقية تحت غطاء الوحدة الوطنية، التي لم تكن سوى قناع لسلطة أمنية عسكرية ضيقة هيمنت على المجال العام. ومع سقوط السلطة المركزية بعد 2011، انهار هذا العقد الهش، وانكشفت الحقيقة المرة، إذ لم يكن هناك توافق اجتماعي أو سياسي حقيقي حول شكل الدولة، ولا حول هوية المجتمع، ولا منظومة الحقوق والواجبات. هكذا بدأ السوريون، ولأول مرة منذ الاستقلال، بطرح أسئلة جذرية: من نحن؟ كيف نعيش معاً؟ وبأية صيغة حكم؟”
الإعلان الدستوري لسلطة دمشق، هل يشكل عقداً اجتماعياً مرضياً للجميع؟
عن هذا السؤال، اعتبر ميرخان أن “الإعلان الدستوري الذي أصدرته سلطة دمشق برئاسة أحمد الشرع كان محاولة لترميم ما يمكن ترميمه من هوية سياسية لسوريا ما بعد الحرب”.
لكنه استدرك قائلاً:
“رغم أهميته الرمزية، إلا أن الوثيقة لم ترقَ إلى مستوى وثيقة تأسيسية لدولة جديدة. فهي مكتوبة بلغة أقرب إلى الأدبيات الكلاسيكية للدولة الوطنية المركزية، ولم تُحدث قطيعة معرفية مع النموذج البعثي الذي ثار السوريون ضده. الإعلان لم يتطرق لقضايا جوهرية مثل الهوية المركبة أو الاعتراف بالمكونات القومية الأخرى كالكرد والسريان والتركمان، كما غابت عنه مفاهيم العدالة الاجتماعية، والتمكين السياسي للنساء، وتوزيع السلطة والثروة عبر لامركزية سياسية حقيقية. والأهم من ذلك كله، أن الإعلان لم ينبثق من عملية تشاركية مجتمعية، بل جاء نتيجة تفاهمات فوقية، ما يضعف شرعيته وقدرته على أن يكون أساساً فعلياً لدستور جامع”.
الإدارة الذاتية دوماً ما تكون رائدة، ولديها عقد اجتماعي مميز يرضي كافة السوريين، تحدث لنا عنه؟
في هذا السياق، عبّر ميرخان عن إعجابه بتجربة الإدارة الذاتية، واصفاً إياها بأنها “رائدة وتستحق النظر إليها بجدية”، موضحاً:
“العقد الاجتماعي الذي صادقت عليه الإدارة الذاتية عام 2023 لم يكن مجرد نص قانوني، بل ثمرة لحوارات شعبية ومؤتمرات مجتمعية شارك فيها ممثلون عن مختلف المكونات الديمغرافية والسياسية والدينية والثقافية. هذا العقد يكرّس الاعتراف بالتعدد القومي والديني، ويقطع مع مفهوم الهوية القومية الواحدة الذي شكّل أساس الدساتير السورية السابقة. كما أقر مبدأ اللامركزية الديمقراطية، مع الحفاظ على وحدة سوريا، وفرض المساواة الجندرية من خلال آليات تمثيل فعلي للمرأة كشريك سياسي متساوٍ، لا رمزي. كذلك، اعترف باللغات المتعددة كلغات رسمية ومحلية، وأسس لفصل حقيقي بين السلطات، مع إنشاء محكمة لحماية العقد الاجتماعي. والأهم، التأكيد أن السيادة تعود للشعوب، لا للدولة ككيان فوقي. بالرغم من تحديات تطبيقه، فإن هذا العقد يشكل انتقالاً حقيقياً من مفهوم الدولة إلى مفهوم المجتمع الديمقراطي، حيث السيادة موزعة، والهوية متعددة، والدولة في خدمة الإنسان، وليس العكس.”
في عقد اجتماعي جديد، على ماذا نعتمد لتأسيس دولة جديدة؟
يؤكد ميرخان أن أي محاولة لبناء دولة سورية جديدة يجب أن تقوم على الاعتراف بفشل التجربة السابقة، مضيفاً:
“لا يمكننا بناء سوريا المستقبل على دستور 1950 أو 1973 أو حتى على إعلان انتقالي هش. المطلوب عقد اجتماعي جديد ينبع من الأرض، يعترف بجميع المكونات كمكونات أصيلة، متساوية في الحقوق والواجبات، ويعيد تعريف السيادة من سيادة الدولة إلى سيادة المجتمع. كذلك، يجب فصل الدين عن الدولة مع ضمان حرية المعتقد، حمايةً للدين من التسييس، وللدولة من الطائفية. كما أن توزيع الموارد يجب أن يتم بشكل عادل، لضمان العدالة الاجتماعية وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع. نحتاج إلى ديمقراطية توافقية لا إقصائية، تحترم نتائج الانتخابات، لكنها تضمن تمثيل الجميع.”
إن بناء عقد اجتماعي جديد لا بد له من وجود تحديات، ما هي؟
لم يُخفِ ميرخان حجم التحديات التي تعترض طريق بناء عقد اجتماعي جامع، قائلاً:
“التدخلات الإقليمية والدولية من أبرز العقبات، إذ إن كثيراً من هذه القوى لا ترغب بقيام نموذج ديمقراطي حقيقي في سوريا. كذلك، تعاني المعارضة من ذهنية مركزية وإقصائية موروثة، إلى جانب الانقسامات المجتمعية العميقة على أسس قومية ومذهبية وطبقية. كما أن أغلب المناطق السورية تعاني من ضعف مؤسسي وغياب أجهزة تنفيذية قادرة على تطبيق التوافقات الدستورية. ورغم ضخامة هذه التحديات، إلا أنها لا تلغي الضرورة القصوى لصياغة ميثاق وطني جديد، يعيد تعريف السوريين كجماعة سياسية متساوية، لا كأتباع متنازعين.”
ختاماً، بعد سقوط النظام، هل وُلدت سوريا الجديدة؟
أجاب ميرخان بوضوح: “كلا، لقد سقط النظام، لكن الدولة لم تولد بعد.
فالانتقال من الطغيان إلى الديمقراطية لا يتم بإزاحة السلطة فقط، بل بإعادة صياغة الأسس التي تقوم عليها شرعية الحكم. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عبر عقد اجتماعي جامع، يعترف بتنوع السوريين، ويضمن العدالة والكرامة للجميع. تجربة الإدارة الذاتية، رغم محيطها المعقد، تقدم نموذجاً أولياً يستحق البناء عليه وتطويره، كنواة لسوريا جديدة: عادلة، لا مركزية، ديمقراطية، ومدنية”.