في قلب المدينة القديمة بحلب، وبين أزقتها المتشابكة التي ما زالت تنبض بعبق التاريخ، تقاوم صناعة الصابون البلدي – أو كما يعرف بصابون الغار – عوامل الزمن، لا كحرفة تقليدية فقط، بل كمصدر فخر اقتصادي وثقافي. ورغم ما تمتلكه هذه الصناعة من تاريخ يمتد لآلاف السنين، فإنها اليوم تواجه تحديات كبيرة، أبرزها غياب الدعم الحكومي الحقيقي، الأمر الذي يهدد بإضعافها وربما اندثارها مع مرور الوقت.
منذ العصور القديمة، اعتُبرت حلب مركزاً رئيسياً لصناعة الصابون في الشرق الأوسط، حيث يتميز الصابون الحلبي بتركيبته الطبيعية من زيت الزيتون وزيت الغار، وبطريقته التقليدية في التصنيع التي تعتمد على الطهي في قدور ضخمة ثم التقطيع والتجفيف والتعتيق لعدة شهور. لكن هذه الصناعة، التي كانت تُصدر منتجاتها إلى أوروبا وآسيا منذ القرون الوسطى، تجد نفسها اليوم محاصرة بين ضعف البنية التحتية، وتكاليف الإنتاج المتصاعدة، وغياب أي خطة حكومية لحمايتها أو دعمها.
وفي أحد المصانع الصغيرة بحي باب النصر، تحدث إلينا محمود العيسى، صاحب مصنع صابون ورثه عن والده وجده. قال لمراسلنا: “الحكومة تتحدث عن دعم الصناعات التراثية، لكن الواقع مختلف. لا نحصل على تسهيلات في نقل وتصنيع المواد أو تصدير المنتج. الضرائب مرتفعة، والروتين الإداري يخنقنا، ناهيك عن انقطاع الكهرباء وصعوبة تأمين الوقود”.
أما رائد كنو، تاجر صابون يعمل في سوق الزهراوي، فقال: “لدينا منتج نقي ونادر، الناس في أوروبا يدفعون مبالغ عالية مقابل قطعة صابون حلبي، لكننا نعاني في تصديرها بسبب ضعف التسهيلات، وغياب أي هيئة رسمية تدعم ترويج المنتج دولياً. نعمل بمجهودنا الفردي، نسوق على الإنترنت ونتعاون مع وسطاء خارجيين، بينما الدولة لا تحرك ساكنا”.
عوائق جمّة تهدد الاستمرارية
تعاني الصناعة من نقص حاد في زيت الغار، بسبب ارتفاع سعره وصعوبة الحصول عليه نتيجة تراجع الإنتاج الزراعي، فضلاً عن التضخم الذي يرفع أسعار المواد الأولية. كما أن افتقار المصانع للدعم الفني والتقني يحول دون تحديث خطوط الإنتاج، الأمر الذي يبقي بعض المصانع على أدوات بدائية، رغم قدرتها على التحول إلى صناعة تنافسية عالمية.
ومن الملاحظ أن الحكومة، رغم تصريحاتها المتكررة حول دعم “الاقتصاد المحلي” و”المشروعات الصغيرة”، لم تترجم وعودها إلى سياسات ملموسة في حلب. حيث لا توجد إعفاءات جمركية واضحة لمستوردي المواد الأساسية، ولا مبادرات لفتح أسواق جديدة. بل على العكس، يتهم البعض الجهات الرسمية بوضع عراقيل إدارية وتنظيمية أمام التوسع أو التصدير.
حلم البقاء رغم كل التحديات
وعلى الرغم من كل التحديات، لا يزال العاملون في هذه الصناعة متمسكين بحلم البقاء. يسعون للحفاظ على هذا التراث الحي، ويعملون بصبر وشغف، متحدين الصعاب، ولكنهم بحاجة إلى تدخل حقيقي من الدولة – ليس بالكلمات والشعارات – بل بخطط عمل، دعم مادي، تخفيف للضرائب، وترويج خارجي منظم.
إن صناعة الصابون الحلبي ليست مجرد مهنة تقليدية، بل كنز وطني، ومورد اقتصادي، وصورة جميلة عن سوريا في الخارج. وإن لم تتحرك الجهات المعنية لإنقاذها اليوم، فقد لا نجد لها مكاناً في مستقبل الغد. فهل تنتصر البيروقراطية على التاريخ؟ أم أن الحكمة ستغلب، ويمنح هذا التراث ما يستحق من اهتمام؟.