تقرير/ اـ ن
في الوقت الذي كان يأمل فيه المواطنون السوريون أن تتحسن الأوضاع الصحية بعد سقوط النظام السابق في نهاية عام 2024، تفاقمت الأزمات الطبية في المشافي العامة والخاصة على حد سواء، وباتت تكلفة أي عمل جراحي تفوق قدرة معظم السكان في مدن الساحل السوري وريفها، خاصة في محافظتي طرطوس واللاذقية، اللتين تعاني مشافيهما من نقص حاد في المواد الأساسية والمستلزمات الطبية، وسط تراجع دور القطاع العام وعجزه عن تغطية الحاجات المتزايدة للمرضى.
ولم تنجح الجهات الصحية في تحسين الخدمات الطبية بالشكل المطلوب، بل ازدادت التحديات، لا سيما مع تعقيد عمليات الإمداد والتموين، بعد تحول طرق تمرير الأدوية من لبنان إلى الأردن، بسبب التوترات السياسية بين البلدين، ما أدى إلى تعطيل وصول كميات كبيرة من الأدوية والعلاجات إلى سوريا لفترات طويلة، وترك تأثيراً واضحاً على القطاع الصحي.
في هذا السياق، أصبحت فاتورة أي عمل جراحي في المشافي العامة عبئاً ثقيلاً على كاهل المواطنين، لدرجة أن العديد من الأهالي لم يعودوا قادرين على تحمل كلفته، حيث بات إجراء عملية جراحية في مشفى عام يتطلب شراء معظم المستلزمات الطبية على نفقة المريض الشخصية، نتيجة نفادها من مستودعات مديريات الصحة. هذه المستلزمات تشمل الخيطان الجراحية، إبر الخياطة ذات الاستخدام الواحد، الشاش، والقطن، وغيرها من المواد التي من المفترض أن تكون متوافرة مجاناً في المشافي الحكومية.
وبحسب شهادات لذوي المرضى في طرطوس واللاذقية، فإن تكلفة أي عمل جراحي بسيط تتراوح بين 20 و30 مليون ليرة سورية في المشفى العام، فيما ترتفع هذه التكلفة إلى ما بين 40 و70 مليون ليرة، وربما أكثر، في حال اضطر المريض لإجراء العملية في مشفى خاص، وخصوصاً إذا لم يكن الطبيب المعالج متعاقداً مع المشفى الحكومي. هذه المبالغ تُعد باهظة مقارنة مع الدخل الشهري لغالبية الأسر في تلك المناطق.
تكافل مجتمعي
للتخفيف من هذه الأعباء، أصبح الاعتماد على الجمعيات الأهلية والمجتمع المحلي أمراً شائعاً، إذ تساهم هذه الجهات في تغطية ما يصل إلى 70 بالمئة من تكاليف العمليات الجراحية. لكن لضمان وصول الدعم لمستحقيه، بات من الضروري أن يحصل المريض على تقرير طبي رسمي من الطبيب المختص لتحديد طبيعة العمل الجراحي المطلوب وتكلفته التقديرية.
الدكتور نعمان، أحد الأطباء العاملين في القطاع الصحي بالساحل السوري، تحدث عن التصاعد الخطير في تكاليف العمليات الجراحية، وسط خسارة عدد كبير من الخدمات الأساسية في المشافي العامة، قائلاً: “المشافي الحكومية تعاني نقصاً في اختصاصات حساسة مثل التخدير، الكلية، والعناية المشددة. لدينا عدد جيد من الأطباء الذين يتقدمون للإقامة، لكن غالبيتهم يتخذونها كمرحلة مؤقتة قبل السفر للخارج، ويتعلمون اللغات الأجنبية لهذا الغرض”.
وأضاف أن من بين مئات الأطباء الذين يبدؤون فترة الإقامة أو التخصص، تتسرب نسبة كبيرة منهم خلال أشهر قليلة، إما بسبب الظروف الأمنية أو الأعباء المادية، مشيراً إلى أن تسرب الكوادر الطبية يعمق من أزمة الخدمات الصحية ويقلل من كفاءة المشافي العامة.
وأوضح الدكتور نعمان أن تكلفة عملية القسطرة القلبية في المشافي الخاصة في اللاذقية تتراوح بين 2 إلى 3 ملايين ليرة، بينما تبلغ تكلفة تركيب شبكة واحدة بين 10 و12 مليون ليرة سورية. أما في المشافي العامة، فإن المرضى مجبرون على شراء مستلزمات هذه العمليات من خارج المشفى، لعدم توفرها داخله.
وأعرب المواطنون في طرطوس واللاذقية عن استيائهم من المفارقة بين توفر المواد الطبية في القطاع الخاص وندرتها في القطاع العام، معتبرين أن هذا التفاوت يثير تساؤلات عديدة، ويؤدي إلى حرمان الطبقات الفقيرة من حقها في العلاج. كما أن تعطل بعض الأجهزة الطبية الحيوية في المشافي العامة يضاعف من أعباء المرضى ويؤخر إجراء العمليات في أوقات حرجة.
وعلى صعيد الأمراض المزمنة، تحدث الدكتور نعمان عن ارتفاع في حالات الانتانات المعوية بسبب سوء تخزين المواد الغذائية، وانقطاع الكهرباء لفترات طويلة، إلى جانب ضعف الرقابة على الأغذية. وأشار إلى أن العديد من المشافي العامة في الساحل تعاني من نقص واضح في مستلزماتها الطبية، بما فيها الزمر الدوائية الأساسية، وحتى المواد اللازمة للتحاليل المخبرية، ما اضطر المرضى لتأمينها على نفقتهم من خارج المشفى، رغم التأكيدات المتكررة من الإدارات الصحية برفع احتياجاتها للجهات المعنية.
كما تعاني المشافي العامة من نقص شديد في الكوادر الطبية، نتيجة تسرب المئات من الأطباء إما بسبب الأوضاع الأمنية أو ضعف الرواتب، ما أدى إلى تراجع جودة الخدمات الصحية، وزيادة الضغط على من تبقى من الأطباء والعاملين.
وأشار التقرير إلى أن المرضى واجهوا صعوبات كبيرة خلال سنوات الحرب، كان أبرزها الانقطاعات المتكررة في توافر الأدوية، إما نتيجة للأعمال القتالية، أو بسبب تعذر الوصول إلى مراكز التوزيع بسبب إغلاق الطرق. هذا الانقطاع أثّر مباشرة على استمرارية العلاج، وشكّل تهديداً حقيقياً لصحة آلاف المرضى.
كما أوضح الدكتور نعمان أن المتعايشين مع أمراض مزمنة، لم يتمكنوا من الحصول على أدويتهم بشكل منتظم بعد سقوط النظام، وهو ما أدى إلى تدهور وضعهم الصحي. وقال إن غياب الفحوصات الأساسية لتقييم فعالية الأدوية يجعل من الصعب تحديد الوضع الصحي الدقيق لهؤلاء المرضى، لا سيما بعد انقطاعهم عن العلاج لفترات طويلة.
وأضاف أن غياب الدعم النفسي، وحملات التوعية، زاد من العبء النفسي على المرضى، لدرجة أن بعضهم يعاني من آثار نفسية أشد وطأة من المرض نفسه، لا سيما في حالات الإصابة بأمراض مزمنة أو فتاكة كالعجز الكلوي أو السرطان. وتشير تقديرات بعض المنظمات الأممية إلى أن العدد الفعلي للمتضررين قد يكون أعلى بكثير من الأرقام المعلنة، نظراً لضعف إمكانات الفحص خلال النزاع، والحالة الاجتماعية التي تدفع البعض إلى تجنب الإفصاح عن حالتهم المرضية.
وسط هذه الظروف، يبقى الواقع الصحي في الساحل السوري بحاجة إلى تدخلات عاجلة، وإعادة هيكلة للقطاع الطبي بما يضمن توفير الحد الأدنى من العلاج المجاني للمواطنين، خصوصاً أن الأوضاع الاقتصادية المتردية لا تسمح للغالبية بتحمل تكاليف العلاج في القطاع الخاص.