تقرير/ اـ ن
فجّرت وزارة المالية في سلطة دمشق جدلاً واسعاً بعد إصدارها قراراً مفاجئاً يقضي بتحويل رواتب جميع العاملين في القطاع العام، الإداري والاقتصادي، إلى تطبيق “شام كاش”، بدلاً من المصارف الحكومية المعتمدة سابقاً. القرار الذي صدر دون تمهيد أو نقاش علني، اعتُبر من قبل خبراء ومتابعين بمثابة خطوة غير مدروسة، تضع مستقبل المعاملات المالية لموظفي الدولة في يد جهة خاصة، ضمن بيئة تعاني من ضعف البنية التحتية التقنية وغياب التنظيم القانوني الصارم.
ويعمل تطبيق “شام كاش” عبر بنك صرافة خاص غير حكومي، ويقدم خدمات مالية متعددة تشمل استلام الرواتب، دفع الفواتير والمخالفات، تحويل الأموال بين المستخدمين، والسحب النقدي من خلال شبكة من الوكلاء المحليين مثل شركتي الفؤاد والهرم. ورغم أن التطبيق يُوفّر تقنياً واجهة بسيطة لا تتطلب حساباً مصرفياً، ويمكّن المستخدم من الوصول إلى راتبه دون الحاجة للذهاب إلى المصرف، إلا أن الواقع يكشف عن تحديات كبيرة وملاحظات قانونية وإجرائية تتعلق بشرعية عمل التطبيق، وآليات ارتباطه بالمصرف المركزي، ومدى التزامه بحماية بيانات المستخدمين.
ويأتي قرار تحويل الرواتب في ظل استمرار انقطاعات الكهرباء، التي لا تتجاوز في بعض المناطق 2 إلى 4 ساعات يومياً، إلى جانب ضعف شبكة الإنترنت وارتفاع تكاليف خدمات الاتصالات. ويُعد ذلك عائقاً أمام تشغيل الهواتف المحمولة أو أجهزة السحب لدى الوكلاء، مما يعيق وصول الموظفين إلى رواتبهم، ويضعف فاعلية التحول الرقمي المنشود. وتزداد المشكلة تعقيداً في الأوساط الريفية وبين كبار السن من الموظفين الذين لا يمتلكون الخبرة الكافية باستخدام التطبيقات الرقمية، وسط غياب أي حملات توعية أو تدريب رسمية.
ويحذر مختصون من تداعيات هذا القرار على القطاع المصرفي الحكومي، حيث من المتوقع أن تخسر المصارف العامة كتلة الرواتب التي كانت تستقبلها شهرياً، إلى جانب خسائر في العمولات الناتجة عن عمليات السحب والتحويل، وتجميد ملايين الحسابات، وتقليص الحاجة إلى الفروع والكوادر البشرية. وقد يؤدي ذلك إلى تهميش الدور المالي للمصارف الحكومية، وربما إغلاق بعض فروعها مستقبلاً.
في المقابل، فإن الجهة المشغّلة لتطبيق “شام كاش” ستحقق مكاسب ضخمة، من بينها السيطرة على كتلة مالية شهرية هائلة من رواتب الموظفين، والتحكم بالبيانات المالية لأكثر من مليون شخص، وجني إيرادات من العمولات عند كل عملية دفع أو سحب أو تحويل. كما يعزز التطبيق من انتشاره الجغرافي والتجاري عبر توسيع شبكة الوكلاء، مع احتمالات مستقبلية لاستخدام البيانات لأغراض تسويقية أو تجارية في ظل غياب رقابة قانونية شفافة.
ويرى مراقبون أن هذا القرار يمهد لتحول التطبيق من مجرد منصة لصرف الرواتب، إلى أداة نفوذ اقتصادي رقمي طويل الأمد، ويؤسس تدريجياً لانسحاب الدولة من المشهد المالي الرقمي، لصالح شركات خاصة. كما يتوقع أن تتوسع خدمات “شام كاش” لاحقاً لتشمل عمليات الشراء، ودفع الرسوم الحكومية، وغيرها من التعاملات، بما يكرّس احتكاراً رقمياً واسعاً لا يراعي الشفافية أو العدالة في تقديم الخدمات.
إن ما يحدث اليوم، بحسب مختصين، ليس مجرد تحول تقني، بل إعادة تشكيل لخريطة النفوذ المالي في سوريا، في وقتٍ لا تزال فيه البنية التحتية ضعيفة، وتنعدم فيه الثقة العامة بالتطبيقات الخاصة، وتغيب فيه الأطر القانونية الناظمة والرقابة المؤسسية. وفي ظل هذه المعطيات، فإن مستقبل المعاملات المالية في البلاد لم يعد حكراً على الدولة، بل أصبح مرهوناً باستراتيجيات شركات خاصة، تسعى لتعزيز نفوذها تحت غطاء التحول الرقمي.