حماة/ جمانة الخالد
بعد مرور 43 عاماً تمكّن أهالي حماة ولأول مرة في قلب المدينة، من إحياء ذكرى المجزرة التي ارتكبها آل الأسد بحق أبنائهم وبيوتهم الوادعة. لم ينس الحمويون الذين تجمهروا في ساحة العاصي لإحياء الذكرى، دماء أجدادهم وآبائهم وأبنائهم وأقاربهم التي ظلّت تسيل منذ أربعة عقود وصولاً إلى يوم النصر وإسقاط نظام سلالة القتل والمجازر.
طوال سنوات حكم عائلة الأسد، ظلت تلك المجزرة الأشد قسوة في تاريخ سوريا الحديث، طي الكتمان. لم يكن مسموحاً لذوي الضحايا أو الناجين التحدث عنها علناً، وسط تهديدات بالقمع والاعتقال والتصفية.
43 عاماً والسوريون ما زالوا يرددون أصداء تلك المجزرة ويستعيدون أحداثها؛ ليس في مواقيت ذكراها فحسب، بل كلما شاهدوا أو سمعوا أو مرّ على زوايا ذاكرتهم ما يثير الهلع والحزن والغضب. نعم، مجزرة حماة تكاد أن تكون حاضرة في جٌلّ أيام السوريين.
جزء يسير من تفاصيل أحداث المجزرة المرعبة والتي امتدت على مدى 27 يوماً، بين الثاني من شباط حتى مطلع آذار من عام 1982، ما يزال خافياً حتى اليوم؛ فالمدينة كانت قد أغلقت بالكامل بوجه المدنيين، وطُوقت بالدبابات والمدرعات ومدفعيات الميدان، وحوصرت بآلافٍ من جنود الأسد الأب الذين لم يختلفوا عن جنود الابن المخلوع في الوحشية والإجرام.
إغلاق المدينة وعزلها بشرياً وإعلامياً عن محيطها، لم يكن السبب الوحيد في اختفاء ذلك الجزء من الأحداث، بل ساهمت أسباب عديدة أخرى في طمسها، ولعل أبرزها يتمثّل في تصفية من عاصرها داخل المدينة وكان شاهد العيان الوحيد عليها، وربما كان نفسه ضحية تلك التفاصيل الموغلة في وحشيتها، فاختفى معها تحت أنقاض حماة.
مجلة الـ “إيكونومست” نشرت مقالاً في عددها الصادر بشهر أيار 1982، حمل عنوان “أهوال حماة”، قالت فيه “إن القصة الحقيقية لما جرى في شباط بمدينة حماة لم تعرف بعد وربما لن تعرف أبداً. مرّ شهران قبل أن تسمح (الحكومة السورية) للصحفيين بزيارة خرائب المدينة التي استمرت تحت قصف الدبابات والمدفعية والطيران ثلاثة أسابيع كاملة. لتمحى أحياء كاملة من المدينة القديمة”.
منذ تسلّم حزب البعث السلطة في سوريا، بعد انقلاب الثامن من آذار 1963، كانت غالبية المدن السورية تشهد بين الفينة والأخرى تظاهرات واحتجاجات وإضرابات، لأسباب مختلفة، إلا أن غالبيتها تمحورت حول إعلان حالة الطوارئ على البلاد بُعيد الانقلاب.
ولم تكن حماة بمعزل عن حراك المدن السورية، بل إن حراكها كان الأبرز من بين المدن الأخرى. ففي نيسان 1964 نفذت المدينة إضراباً عاماً مصحوباً بمظاهرات حاشدة، للمطالبة برفع حالة الطوارئ. فكان الصدام الأول مع الجيش الذي قمع الاحتجاجات بوحشية وقصف المدينة بالمدافع.
الصدام الثاني جرى عام 1973 حين احتج الأهالي على مسودة دستور أزيل منها المادة التي تشترط أن يكون رئيس البلاد مسلماً، فخرجت مظاهرات حاشدة، لم تجبر النظام على إعادة المادة إلى الدستور فحسب بل وأجبرت حافظ الأسد على إشهار إسلامه أمام مفتي سوريا حينذاك.
ولا شك بأن الواقعتين السابقتين، وعلى الأخص الثانية منهما، كان لها الأثر البالغ في نفسية حافظ الأسد، ولعلها ساهمت في تأجيج شعور طاغٍ بالانتقام الذي تجسّد لاحقاً في شباط 1982.
وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي، شكّل صعود جماعة “الإخوان المسلمين” وسطوع نجمها على الساحة آنذاك دوراً رئيساً في تأجيج الصدام. فنشاط الجماعة -المعارِضة والرافضة لنظام الأسد- وقوة تنظيمها، وتشكيل بعض كوادرها لـ “الطليعة المقاتلة” المسلحة، وتنفيذها عمليات اغتيال (أبرزها عملية استهداف الطلاب الضباط من أبناء الطائفة العلوية في مدرسة المدفعية بحلب 1979)؛ كل ذلك مهّد لأحداث حماة اللاحقة.
فبعد أن لاحق نظام الأسد عناصر الطليعة المقاتلة في معظم المدن السورية، وقتل قسماً منهم واعتقل آخر، لجأ بعض مقاتليهم (بين 200- 300 مقاتل بحسب تقديرات) إلى مدينة حماة وتحصنوا فيها. وهنا جاءت الفرصة العظمى لتنفيذ خطة الانتقام.
اختار حافظ الأسد شقيقه رفعت ليكون السلاح الأنسب في تنفيذ معركته الانتقامية. وكان الأخير آمراً لأكثر من 15 ألف عسكري، يتبعون لأهم تشكيلات الجيش آنذاك، والمتمثلة في: سرايا الدفاع، وسرايا الصراع، ولواء دبابات، والقوات الخاصة، بالإضافة إلى مختلف عناصر الأجهزة الأمنية والمخابرات والشعب الحزبية.
تم تطويق المدينة وإغلاق مخارجها وعزلها بالكامل عن المحيط. وحين هبط الظلام على المدينة، في الثاني من شباط، كانت تشكيلات سرايا الدفاع أولى الفرق المنتشرة داخلها بالتزامن مع قطع الكهرباء وخطوط الهاتف، وابتداءً من الساعة التاسعة وقعت أحياء المدينة تحت رحمة الرصاص وقذائف المدفعية والراجمات. وكانت الليلة السوداء الأولى للمذبحة.
مع فجر اليوم التالي (الـ3 من شباط) كان حيّ “الحاضر” العريق في حماة الهدف الأول للراجمات التي نصبها النظام فوق أبنية ساحة العاصي مقابل الحي بذريعة تحصن مقاتلي الطليعة بداخله. ومع انتهاء نهار ذلك اليوم كان الحاضر -بأكمله- عبارة عن ردمٍ من الحجارة تعلوه سحابة سوداء.
من جهة أخرى، انتشرت باقي تشكيلات الجيش لتحتل شوارع وحارات المدينة وتشّلها بالكامل، ثم بدأت المرحلة التالية المتمثلة بـ “تعفيش” المحال التجارية بمختلف محتوياتها. واستمرت مرحلة النهب والتعفيش إلى اليوم التالي أيضاً (4 شباط) حيث لم تسلم حتى دوائر الدولة والمصارف الحكومية من سرقة الأموال.
وشهد ذلك اليوم ما عُرف بمجزرة (حي حماة الجديدة)، حيث تم جمع سكان الحي داخل الملعب البلدي وأطلق عليهم النار من الرشاشات، ويقدّر الأهالي عدد ضحايا المجزرة بنحو 1500 شخص.
في صباح الـ5 من شباط، وكان يوم جمعة، راحت أعداد الجنود تتضاعف داخل المدينة، ولاحظ الأهالي ارتداء كثيرين منهم دروعاً واقية وأقنعة بيضاء اللون، بالإضافة إلى ظهور عربات مصفحة صغيرة تسير مسرعة بين الأحياء.
وتجدد قصف المدافع والراجمات مستهدفة مختلف أحياء المدينة، إلا أن التركيز كان على منطقة (السوق) حيث تهدمت معظم البيوت، فلجأ من بقي حياً من أصحابها إلى الأقبية.
وعند منتصف النهار، أعلن البدء بالذبح الجماعي، وكانت البداية مع العائلات المحتمية داخل الأقبية.. وبالكامل. ولتستمر بعدها المجازر دون توقف، وبصورة متزامنة داخل الأحياء، لدرجة أن الناس لم تعد تستطيع التفريق بين مجزرة حيّ وآخر.
أحد مراسلي صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، “سورج شالاندون”، وكان يعمل في دمشق تحت اسم مستعار هو (شارل بوبت). تمكن شارل من الدخول إلى حماة عن طريق الحيلة، وذلك بعد سفره من دمشق باتجاه حلب، ثم تسلل من استراحة قريبة من حماة ليتمكن لاحقاً من التسلل إلى قلب المدينة مدعياً أنه خبير آثار.
وبعد أن قضى في المدينة وقتاً لا بأس به، سلم نفسه للسلطات السورية كتمويه. وبعد عودته إلى فرنسا نشر تحقيقاً مطولاً (30 صفحة) يعتبر أخطر ما كتب في الصحافة العالمية عن المذبحة كونه صادر من شخص محايد رأى بعينيه ما كان يحصل.
قدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان أعداد القتلى بين 30 و40 ألفاً، غالبيتهم العظمى من المدنيين. وقضى معظمهم رمياً بالرصاص بشكل جماعي، ثم تم دفن الضحايا في مقابر جماعية. وتشير تقارير إلى اختفاء نحو 10- 15 ألف مدني منذ وقوع الأحداث، ولا يُعرف إن كانوا أحياء في السجون العسكرية أم لقوا حتفهم.
كما اضطر نحو 100 ألف نسمة إلى الهجرة عن المدينة بعد أن تم تدمير ثلث أحيائها تدميراً كاملاً. وتعرضت أحياء عدة، وخاصة في قلب المدينة الأثري إلى تدمير واسع، إلى جانب إزالة 88 مسجداً وثلاث كنائس ومناطق أثرية وتاريخية نتيجة القصف المدفعي.
وتكاد لا تخلو أسرة في مدينة حماة إلا وفقدت في المجزرة أباً أو ابناً أو ابنة أو أخاً أو أماً أو زوجة. ولعبت تلك الأحداث ووحشيتها دوراً رئيساً في تعليق مدينة حماة نشاطها الثوري بعد مرور أشهر معدودة على ثورة آذار 2011، نظراً لإدراك أبنائها مدى دموية نظام الأسد أكثر من أبناء بقية المحافظات.
ولمعرفة حجم وهول مجزرة حماة “أحداث حماة”، يكفينا أن نستمع لأهالي المدينة وهم يتذكّرون حدثاً ما، كولادة شخص أو وفاة آخر، أو زواج فتاة أو هجرة قريب، ثم يذكرون تاريخ ذلك الحدث بأنه وقع “قبل الأحداث” أو “بعد الأحداث”.