لكل السوريين

إعادة الإعمار في سوريا بين الواقع والمأمول

تحقيق/ جمانة الخالد

بينما تمثل إعادة الإعمار في سوريا فرصة استثنائية للدول وشركاتها، تشكل في الوقت ذاته تحدياً ضخماً أمام أي حكومة سوري مقبلة، في ظل الدمار الهائل الذي طال البنية التحتية والقطاعات الحيوية، مما يعكس حجم المهمة الشاقة التي تنتظرها.

وخلال لقاءاته السياسية وتصريحاته الإعلامية الأخيرة، كانت التنمية الاقتصادية محور تركيز أبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام، مؤكداً على عنوان بارز وهو أن “سوريا تمتلك بيئة خصبة” للاستثمار.

ومع غياب إحصائيات دقيقة على الأرض، تختلف التقديرات بشأن كلفة إعادة الإعمار بين 300 و500 مليار دولار. لكن الأمر الوحيد المتفق عليه هو أن سوريا لن تكون قادرة على تحمل أعباء إعادة البناء بمفردها، مما يتطلب شراكات دولية ودعماً إقليمياً ودولياً لتحقيق ذلك.

وبالنظر إلى تجارب سابقة ناجحة، ظهرت مقترحات مؤخراً حول إمكانية تطبيق نماذج اقتصادية مشابهة لتلك التي نفذت في دول مثل ألمانيا أو رواندا، وسط تحذيرات ومخاوف من احتمالية إغراق سوريا بالديون تحت ذريعة المساهمة في إعادة الإعمار.

منذ الأيام الأولى التي أعقبت سقوط نظام الأسد، كان ملف الإعمار حاضراً على الدوام خلال الاجتماعات المستمرة التي عُقدت في دمشق بين الإدارة السورية الجديدة ووفود الدول العربية والأجنبية، أو من خلال التصريحات الدولية والعربية التي توالت حول استعدادها للمساهمة في إعادة بناء سوريا.

وأعلن صندوق النقد الدولي، عبر متحدثته جولي كوزاك، استعداد الصندوق للمساعدة في إعادة الإعمار بالتعاون مع المجتمع الدولي. في حين صرح المتحدث باسم الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أنور العوني، بأن الاتحاد يدرس جهود إعادة الإعمار في سوريا، مشدداً على أن التفكير في هذا المسار ما زال مستمراً.

على الجانب التركي، أكد الرئيس رجب طيب أردوغان أهمية اتخاذ خطوات عاجلة للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، وأصدر تعليماته للوزراء للمشاركة في هذا الملف. كما أكد في أكثر من مناسبة أهمية التحرك السريع لدعم العملية.

ورغم التفاؤل الذي حملته تصريحات الدول، فإن معظمها جاء مشروطاً بظروف مستقبلية، إذ ربطت الأطراف الدولية مشاركتها بتحقيق خطوات سياسية ملموسة على الأرض، مثل ضمان حقوق الأقليات وحماية حقوق المرأة، بالإضافة إلى صياغة دستور جديد.

بل إن بعض الدول ذهبت إلى حد اشتراط تحقيق مطالب سياسية محددة، من بينها انسحاب القوات الروسية من سوريا كشرط أساسي للمشاركة في عملية إعادة الإعمار.

لن تكون عملية إعادة الإعمار مهمة سهلة أمام الحكومة المستقبلية، إذ تُعد واحدة من أكثر التحديات تعقيداً وصعوبة. فالتنمية المستدامة تواجه سلسلة من العقبات المتنوعة، التي صنفها الباحث السوري سنان حتاحت إلى نوعين رئيسيين: عوائق خارجية تتعلق بالمواقف والسياسات الدولية، وأخرى داخلية ترتبط بالواقع السياسي، والإداري، والاقتصادي داخل البلاد.

وتتمثل العقبة الرئيسية اليوم في العقوبات الأوروبية المفروضة على مختلف القطاعات السورية، وأبرزها العقوبات التي تستهدف البنك المركزي، مما يؤدي إلى شلل كامل في التعاملات البنكية والمالية.

بالإضافة إلى ذلك، تطول العقوبات الجماعات المصنفة كإرهابية، مثل هيئة تحرير الشام. إذ أن ارتباط الحكومة، بشكل أو بآخر، بعلاقة مع الهيئة يتسبب في تطبيق ما يُعرف بـ “إدارة المخاطر” (De-risking) من قبل البنوك والمؤسسات المالية الدولية، مما يضع الحكومة تحت ضغط كبير ويعيق قدرتها على تجاوز هذه الأزمة.

أما العقبات الأخرى غير القانونية، فهي إدارية الطابع وتتمثل في عدة جوانب، أبرزها غياب التشريعات الملائمة، مما يشكل تحدياً كبيراً. وهذا يستدعي من الحكومة العمل على صياغة مجموعة شاملة من القوانين الجديدة التي تسهم في تشجيع الاستثمار، وتوضيح العلاقة بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى تنظيم قوانين تداول الأموال، بما يشمل التعامل مع العملات الأجنبية وآليات التمويل من خلال القروض.

إضافة إلى التشريعات المتعلقة بحقوق الملكية وتأسيس الشركات، حيث كانت التشريعات السابقة تعيق التقدم في هذا المجال. ولكن ذلك يتطلب جهوداً كبيرة نظراً للترابط الوثيق بين القوانين المختلفة.

ثم أن هناك عقبات تتعلق بالبنية الإدارية للدولة، التي تعاني من قدم وهشاشة كبيرة، حيث تفتقر إلى المرونة وتواجه عبئاً بيروقراطياً ثقيلاً. كما أن القطاع الحكومي يهيمن بشكل كامل، مما يستدعي إعادة هيكلة شاملة للدولة ومؤسساتها وإداراتها ووزاراتها السيادية.

أما العقبة الأخيرة، فتتعلق بالموارد البشرية. وبالرغم من وجود خبرات سورية متنوعة ومتميزة في العديد من القطاعات الرئيسية، فإن غالبية هذه الكفاءات موجودة خارج البلاد، مما يشكل تحدياً كبيراً لإعادتها وتشجيعها على العودة والعمل داخل سوريا.

ومن أجل تحقيق ذلك، يتطلب توفير بيئة آمنة ومستقرة، بالإضافة إلى موارد مالية تمكن من تقديم رواتب مناسبة، وهيكل إداري قادر على استيعاب هذه الكفاءات. كما يتطلب وجود قطاع خاص نشط قادر على استقطاب هذه الخبرات، إضافة إلى تطوير الكوادر البشرية الموجودة داخل البلاد، التي تأثرت بسنوات طويلة من الانقطاع عن التعليم والتدريب.

وإلى جانب العقبات السابقة، هناك مجموعة من العراقيل التي تواجه إعادة الإعمار هي ضعف الثقة واهتزاز مؤسسات الدولة، حيث تعاني هيكلية الدولة من التزعزع، إضافة إلى غياب الاستقرار السياسي حتى الآن. وهو ما يجعل مرحلة إعادة الإعمار متأخرة بطبيعتها، إذ تحتاج إلى استقرار سياسي وتوافق دولي واعتراف واضح بالحكومة الجديدة، ودعم من الدول الصديقة قبل التفكير في أي دعم أوروبي.

فجميع الوفود التي تزور سوريا تأتي بمطالب واضحة، بعيداً عن الدعاية التي تُروج. فكل طرف لديه مطالب محددة، وإذا لم تُنفذ، فلن يكون هناك دعم حقيقي، وهذا يضع الحكومة أمام خيارين: إما تلبية هذه المطالب أو الدخول في صراعات قد تزيد الوضع تعقيداً.

ومن بين العقبات الأخرى، ضعف التمويل والإمكانات المالية. إذ إن رأس المال المادي في سوريا مدمر بشكل كبير، بينما الكفاءات البشرية موجودة في الخارج. بالإضافة إلى ذلك، يعاني رأس المال الاجتماعي، المتمثل في الخبرات والعلاقات المهنية، من تدمير كبير نتيجة للحرب.

إضافة إلى انتشار الفساد وغياب الشفافية، فالنظام السابق ترك إرثاً ثقيلاً من مؤسسات خاسرة وشركات فاشلة وفسادٍ مُستشرٍ، ما يجعل التعامل مع هذا الوضع يتطلب إصلاحات جذرية.

لن تكون عملية إعادة الإعمار في سوريا عشوائية، بل تتطلب خططاً استراتيجية محكمة تشارك فيها العديد من الدول، مستفيدة من تجارب ناجحة نُفذت في دول أخرى، مثل ألمانيا ورواندا. لكن يبقى السؤال: هل يمكن تطبيق هذه النماذج في السياق السوري بما يراعي خصوصياته وتحدياته الفريدة؟

من بين هذه الخطط التي بدأ الحديث عنها خلال الأسابيع الماضية هي “خطة مارشال” التي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة إعمار أوروبا. وارتبطت تسمية المشروع بوزير الخارجية الأميركي آنذاك، جورج مارشال، كونه هو الذي أطلق المبادرة خلال خطبة شهيرة ألقاها في حزيران 1947 أمام طلاب جامعة “هارفارد”.

وبلغت المساعدات الإجمالية المقدمة بموجب الخطة نحو 13 مليار دولار أميركي، وقدمت الأموال على شكل هبات مالية مباشرة لدعم مشاريع البنية التحتية وإعادة الإعمار، وقروض مالية ميسرة لتعزيز الاقتصادات الأوروبية.

وشملت الخطة 16 دولة أوروبية، منها بريطانيا، فرنسا، ألمانيا الغربية، إيطاليا، هولندا، النرويج، اليونان، وأسهمت في تحقيق نمو اقتصادي سريع في الدول المستفيدة.

لكن تنفيذ خطة “مارشال” غير ممكن في سوريا بسبب غياب التوافق الدولي والإقليمي في الوقت الراهن نحو اتخاذ قرار ذي صفة دولية لإعادة إعمار سوريا، إذ أن الخطة الأميركية كانت بمنزلة وسيلة للابتزاز السياسي والاقتصادي تجاه دول الاتحاد الأوروبي. فقد كانت الولايات المتحدة مستفيدة بالدرجة الأولى من هذا الأمر وليست مجرد داعم، حيث قامت على مبدأ المساعدة المشروطة، أي “أساعدك مقابل أن تعيد لي هذه المساعدات بشكل أو بآخر”.

كما دعا بعضهم إلى تطبيق خطة رواندا التي أطلقتها الحكومة بعد الإبادة الجماعية في 1994، وركزت على إعادة بناء الدولة وتحقيق المصالحة الوطنية، وتنمية الاقتصاد والمجتمع بشكل مستدام. وتضمنت العديد من المراحل والاستراتيجيات المهمة، منها المصالحة الوطنية وإصلاح المؤسسات الحكومية والتركيز على التعليم والصحة والتنمية الاقتصادية.

ويعتبر النموذج الرواندي هو أكثر ملاءمة لسوريا في الوقت الحالي، فقد اعتمد على فكرة حكومة مركزية حاربت الفساد واستمرت 15 عاماً، نتج عن ذلك وجود إدارة وحوكمة رشيدة في القطاعات الاقتصادية، والاستثمار في قطاعات حيوية مثل القطاع المالي والاتصالات، مما حفز الاستثمارات الخارجية في القطاع الخاص، وأدى هذا إلى نمو سنوي ملحوظ في الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي.