تعتبر المونة السورية بمثابة صمام الأمان أو الصندوق الأسود للأسر السوري في ضل الضائقة الاقتصادية، حيث تنشغل معظم الأسر في سوريا منذ منتصف شهر آب حتى منتصف شهر تشرين الأول بإعداد كميات وفيرة من المكدوس، الذي تعتبره أم مهند، “هويّة وطنية مكدسة داخل برطمانات (أوعية) زجاجية، وتراثا مستقرا بين طيات ثمار الباذنجان”.
والمكدوس من الأطعمة الشعبية الشهيرة، ويصنع من ثمرات الباذنجان الصغيرة المحشوة بالجوز والفلفل الأحمر الحار والثوم ويُغمر في زيت الزيتون؛ كما يعتبر واحدا من أهم مفردات السلة الغذائية للشتاء في سوريا، وأحد موروثات الطعام التي تناقلتها الأجيال، بل يذهب البعض إلى اعتباره أحد عناصر الأمن الغذائي للأسرة السورية.
وتقول، “المكدوس صنف أساسي على مائدة إفطار السوريين، ويكاد لا يخلو بيت سوري منه ولا تكتمل مؤنة بدونه. وعلى الرغم من التكلفة المرتفعة لتحضيره في ظل تدني مستوى المعيشة، فإن الكثير من الأسر السورية تصر على تخزينه ولو بأقل التكاليف، ويكون العزوف عن صنعه خيار أخير في الحالات المستعصية فقط”.
وفي ظل الواقع الاقتصادي الصعب في البلاد، اتجهت أسر كثيرة إلى ابتكار أساليب جديدة لصناعة المكدوس تناسب وضعها المادي، عبر تقليص الكميات التي كانت معتادة تحضيرها في السنوات السابقة واستبدال بعض مكوناته، والاكتفاء بما يصفونه بأنه “شهوة” تذوقه.
“لم تعد اليوم أكلة شعبية فحسب بل أصبحت تمثل شكلا من أشكال الوعي الشعبي بكيفية الانتقال من اقتصاد الكفاف إلى اقتصاد الكفاية”، تقول أم مهند، التي أكدت أن بعض الأسر اضطرت إلى تقليل الكميات التي تعدها وتخزنها بعد أن كانت تصنع في السابق ما يكفي حاجاتها أو ربما يزيد عليها.
وأضافت “هناك من يلجأ لاختصار محتويات الحشوة، أو استبدالها بأخرى أرخص ثمنا، وإن كانت لا تعطي المذاق المرغوب”.
توافقها الرأي موظفة في القطاع العام وهي سناء (39 عاما)، التي تصف المكدوس بأنه “جزء من التراث اللامادي وأكلة قديمة متجذرة في ثقافة الطهي السورية”.
وترى سناء أن تميز المكدوس السوري عن غيره ليس نابعا فقط من المكونات وإنما أيضا من طريقة التحضير “التي يتوارثها الأبناء عن الآباء والأمهات، ابتداء من أولى مراحل صنعه واختيار مادته الرئيسية (الباذنجان) ووصولا إلى طرق صنعه وتطويره وتحسين مذاقه”.
وتقول “أعتقد أن أي شخص يرى خطوات صنع هذه الأكلة وكثرة الخطوات، التي تحتاج حوالي أسبوع لإنهائها ما بين سلق وتجفيف وتكديس، يسأل نفسه كيف تطورت طريقة التحضير حتى وصلت إلى ماهي عليه الآن؟”
ويعد المغتربون الأكثر إقبالا
غير أن ارتفاع الأسعار وضعف القدرة الشرائية جعلا شراء المكونات اللازمة لإعداد الكميات المعتادة والكافية من المكدوس أمرا صعبا على الكثير من الأسر السورية.
الأربعينية أم مهيار، التي تعمل في إنتاج المكدوس وبيعه، تقول إن معظم ما وصلها من طلبيات لمخزون المكدوس هذا الموسم جاءت من مغتربين يريدون أخذه معهم قبل سفرهم إلى البلاد التي يعيشون فيها.
وأوضحت أم مهيار، التي امتهنت هذه الصنعة لمساعدة زوجها في كسب المال وتأمين المستلزمات الجامعية لولديها، أن سعر برطمان المكدوس، الذي يزن كيلوغراما واحدا، في العام الماضي كان 60 ألف ليرة، لكنه قفز هذا العام إلى 100 ألف.
وقالت “كل المواد الأولية ارتفع سعرها، لاسيما الجوز، إلى جانب الكارثة المتمثلة في ارتفاع تكلفة الكهرباء والمياه والغاز، والمواد الحيوية الأساسية للإنتاج التي حلّقت أسعارها عاليا في الآونة الأخيرة”.
وتضطر أم عصام إلى العمل في هذه المهنة على الرغم من أنها تتطلب الكثير من الجهد والوقت لإنتاج الكميات المطلوبة من المكدوس. لكنها تقول إنها تمكنت من خلال هذا العمل الموسمي من تأمين الكثير من احتياجات منزلها وضرورياته، مشيرة إلى أنها تطلب مساعدة أبنائها وزوجها في المهام التي تتطلب جهدا عضليا.
وبحسب سعاد، وهي موظفة في قطاع التعليم، فإن كل 10 كيلوغرامات من الباذنجان تستخدم في إنتاج المكدوس تحتاج كيلوغراما من الجوز المقشر المجفف، والذي يصل سعره إلى 150 ألف ليرة.
أيضا، تحتاج هذه الكمية من الباذنجان، والتي يبلغ ثمنها دون المكونات الأخرى 35 ألف ليرة، خمسة كليوغرامات من الفلفل بقيمة 17500 ليرة، ونصف كيلوغرام من الثوم بقيمة 12500 ليرة، وأربعة ليترات من زيت الزيتون تكلفها 300 ألف ليرة.
وبهذه الأسعار، فإن تكلفة إنتاج هذه الكمية من المكدوس تقترب من 500 ألف ليرة سورية. وتقول سعاد إن كل كيلوغرام من المكدوس به في المتوسط 10 حبات، ما يعني أن تكلفة حبة المكدوس الواحدة 5000 ليرة سورية.
وتقول سعاد “عشرة كليوغرامات من المكدوس لا تكفي عائلة؛ فنحن بحاجة على الأقل إلى 30 كيلوغراما، وهي تحتاج لنحو مليون و500 ألف ليرة؛ لذلك، تدبرت ثمن ما اشتريته لمخزون هذا الموسم من جمعية (اتفاق بين مجموعة من الأشخاص على تدوير مبلغ من المال فيما بينهم بالتناوب) كنت قد اشتركت فيها من أول العام مع زميلاتي في العمل، واشترطت عليهن تسلمها بالشهر التاسع”.
أما أم محمد، وهي من سكان مدينة حلب، فلن تستطيع تخزين المكدوس بالكميات التي كانت معتادة عليها في السابق، وستكتفي بكمية قليلة للتناول السريع. وتقول “لا مخزون خمس كيلوغرامات للأكل الآني فقط”.
وبحسب أم محمد فإن العائلة الحلبية كانت تصنع قبل الحرب كميات كبيرة من المكدوس تصل إلى 200 كيلوغرام سنويا وتضعها فيما يسمى (بيت المونة)، وهو الاسم الذي يستخدمه السوريون عادة لمكان حفظ مخزون الطعام.
وفي منتصف يونيو حزيران، خرج حديث رسمي في سوريا يشير إلى أن الحكومة أجرت دراسة شاملة لزيادة الرواتب. وأشار محللون حينها إلى أن النسبة المتوقعة للزيادة لن تقل عن 70% بناء على ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية.
كان سعر صرف الدولار الأميركي في ذلك الوقت حوالي 11000 ليرة سورية؛ لكن سعره بلغ نحو 15300 ليرة مع صدور مرسوم رئاسي في منتصف أغسطس آب بزيادة الأجور والرواتب 100%من العام الماضي٢٠٢٣، والذي تزامن مع رفع سعر أسعار المحروقات، وهو ما سبب ارتفاعا كبيرا في الأسعار.
وقال الخبير الاقتصادي حسن خريطة إن هذا التحول أدى إلى تغيرات في مفهوم القيمة والاستهلاك “حيث أصبحت الأطباق الشعبية حكرا على الأغنياء، بينما التقنين الذي تمارسه معظم العائلات السورية وأصحاب الدخل المحدود يظهر أن مفهوم القيمة والرمزية للأصناف الشعبية قد انقلبت رأسا على عقب”.
أضاف “هذا يدل على أن الطعام لم يعد مجرد وجبة يومية، بل يعكس قصصا معقّدة عن تطور المجتمع وتحولاته المستمرة”.
ومع ارتفاع التكلفة والوضع الاقتصادي المتأزم، اتجه العديد من الأسر السورية إلى أساليب جديدة في صناعة المكدوس توفر قدرا من التكلفة، فضلا عن تقليص الكميات التي كانوا معتادين تحضيرها في السنوات السابقة.
وتقول أم عمر، وهي ربة منزل، إن سلق المكدوس يتطلب استهلاك اسطوانة غاز كاملة؛ ولذلك، فإنها اتبعت طرقا بديلة لتوفير ما يمكن توفيره حتى تتمكن من صنع بعض المخزون لعائلتها في فصل الشتاء.
وتقول “لحسن الحظ، أنا من سكان الريف؛ ولهذا، فإني أتمكن من إشعال الحطب لسلق الباذنجان. لكن هذه الطريقة لا يمكن للجميع اتباعها إن لم يكونوا من سكان المنازل الريفية”.
تضيف “أما بالنسبة للحشوة، فسألجأ إلى نفس خطة العام الماضي، حين تحايلت على مكونات المكدوس واستبدلت الجوز بالفستق الحلبي، وخلطت زيت الزيتون بزيت دوار الشمس. الفارق الوحيد هذا العام هو أن سعر كيلوغرام الفستق الحلبي أصبح لا يقل عن 115 ألف ليرة، ما جعله بسعر الجوز تقريبا”.
وستستبعد أم عمر الفستق الحلبي هذا الموسم لتستخدم الفستق السوداني كبديل مناسب، حيث لا يتجاوز سعر الكيلوغرام الواحد منه 35 ألف ليرة. لكنها قالت بنبرة ساخرة “أخشى أن يرتفع ثمنه هو الآخر العام المقبل ونضطر إلى استخدام القضامة (الحمّص) الملونة بدلا منه”.